حتى سن الخمسين لم يكن الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو معروفاً في المشهد الثقافي سوى بمؤلفاته النظرية في فلسفة اللغة والتأويل والدلالة، كان فيلسوفاً عارفاً بأدب القرون الوسطى ومنظراً رفيع المستوى لبنية النص الأدبي ورموزه وعلاماته، ولم يجرؤ على دخول ميدان التطبيق العملي لأفكاره النظرية إلا في العام 1980، عندما قدم أولى رواياته «اسم الوردة»؛ مكتسحاً المسرح الروائي بعمل متكامل فنياً وفكرياً، وليعلن عن نفسه منذ ذلك الحين واحداً من أهم الروائيين المعاصرين في العالم. ولد إيكو في العام 1932 في مدينة تجارية صغيرة في الشمال الإيطالي، تدعى أليساندريا، وعاش فيها طفولته في ظل عائلة ميسورة الحال تتكون من والده ووالدته وثلاثة عشر ابناً آخرين، وكان مقرراً له أن يلتحق بالجامعة لدراسة المحاماة لكنه عدل عن ذلك مفضلاً التخصص في فلسفة وآداب القرون الوسطى، وما أن حصل على شهادة الدكتوراه عام 1954 حتى بدأ بتدريس الفلسفة في جامعة تورينو والعمل في الإذاعة الفرنسية وتلفزيون RAI والصحافة محرراً للشؤون الثقافية، إلى جانب عمله في دار نشر «بومبيني» التي استمر فيها حتى العام 1975. خلال هذه السنوات ظل نشاطه محصوراً في مجال الدراسات الأدبية النظرية، مقدماً عدداً من المؤلفات النقدية المهمة مثل كتاب (العمل المفتوح) الذي نشره عام 1962، وكتاب (البنية الغائبة) عام 1968، وكتاب (نظرية في علم الرموز والعلامات) 1976. لكن قفزته الكبرى ستتحقق له في العام 1980 عندما فاجأ العالم بأولى رواياته «اسم الوردة» مقدماً فيها نصاً كاملاً محققاً لشروط الفن الروائي بأقصى درجات الإتقان، سارداً حكاية بوليسية مشوقة تجري أحداثها في دير نائي في القرن الرابع عشر الميلادي. تتابع رواية «اسم الوردة» الراهب ويليم الذي يلتحق بالدير فيجد أمامه سلسلة من جرائم القتل الغامضة التي يذهب ضحيتها قسساً ينتمون للدير، ولأن «ويليم» يمتلك قدرة على التحليل المنطقي فإنه لا يستسلم للاعتقاد السائد أن الجرائم سببها الأرواح الشريرة، فيبدأ رحلته مع الأسرار التي تكشف له، وعلى نحو مثير، أن القاتل يعيش في أروقة الدير. ويروي أمبرتو إيكو حكايته المشوقة متكئاً على مخزون هائل من المعرفة في الخطاب القروسطي تجلّت في الحوارات التي يجريها «ويليم» مع زملائه القسس عن الأفكار والمذاهب التي كانت سائدة حينذاك. بعد هذه الرواية بثمانية أعوام، أي في العام 1988، قدم أمبرتو إيكو روايته الثانية «بندول فوكو» ليغوص أكثر في التاريخ والثقافة عبر قصة لا تقل تشويقاً أبطالها ثلاثة محررين يقررون البحث عن خريطة فكرية للعالم تسمح بفهم أكبر لأحداث التاريخ ولوجود الإنسان نفسه، وتأخذهم رحلتهم هذه إلى أزمنة وأماكن مختلفة، من أوربا القرون الوسطى، إلى الحروب الصليبية في الشرق، مروراً بأمريكا اللاتينية حيث تتجذر ديانات قديمة مجهولة. في روايته الثالثة التي نشرها عام 1994 بعنوان «جزيرة اليوم السابق» يذهب إيكو إلى الوراء أربعمئة سنة تقريباً ليعرض حرب الامبراطوريات الكبرى للحصول على خريطة خطوط الطول ودوائر العرض على سطح الكرة الأرضية والتي ستسمح لمن يمتلكها بمعرفة موقع أساطيله التجارية والحربية في المحيطات البعيدة وهو ما يعني فرض هيمنته على الجميع. إنها رواية عن الدماء التي سكبت من أجل اكتشاف صغير يدعى خطوط الطول سيغير مجرى التاريخ. في ذلك العام سيقدم إيكو كتاباً نقدياً عن التأليف الروائي بعنوان (ست نزهات في غابة السرد)، ثم سينتظر حتى مطلع الألفية الجديدة ليقدم روايته الرابعة والمهمة «باودولينو» التي تجلى فيها خياله الخصب وقدرته على التحكم في عناصره الفنية، عبر حكاية تاريخية يتنقل خلالها البطل «باودولينو» الشبيه ب»دون كيخوت» بين أزمنة مختلفة، وأماكن متنوعة، واقعية وخيالية وأسطورية، عاش خلالها لحظات سقوط القسطنطينية، وحارب جماعة «الحشاشين»، والتقى بمثقفي باريس، وبفيلسوفة الاسكندرية المتنورة هيباتا، كما سافر إلى الفردوس المفقود بحثاً عن حقيقة الأسطورة اليهودية. إن ما يميز روايات إيكو هو اتساع مجالها المعرفي بحيث تتجاوز البناء القصصي المتقن إلى البحث العميق في محطات تاريخية فاصلة في الثقافة والدين والسياسة، مستغلاً معرفته النظرية العميقة في هذه المجالات، وهو ما سيقدمه أيضاً في روايته الخامسة والأخيرة «مقبرة براغ» عام 2010، إذ يعود مرة أخرى إلى الماضي ليفكك أسطورة «بروتوكولات حكماء صهيون» والحركات السياسية السرية.