الأمسية التي استضافها مهرجان بيت الدين اللبناني بعنوان «أصداء من سورية - حيّ على الياسمين»، أظهرت تنوعاً وغنى موسيقياً لهذا البلد الممزق بسبب الحرب الدائرة فيه منذ سنتين. فالموسيقى التي عزفت في الأمسية، والأغنيات التي قدّمت في الباحة الداخلية من قصر الأمير بشير الشهابي، تبرهن أن الفن قادر على المواجهة، وأن صدى الأنغام والألحان «أقوى من صوت الرصاص»، كما قال ابراهيم كيفو في اختتام الحفلة. ثلاثة أنماط موسيقية قُدِّمت، في ثلاثة محاور منفصلة، فتعرَّف الجمهور على الموسيقى الحديثة مع عازف الكلارينيت كنان العظمة وفرقته «حوار»، والغناء الشرقي الكلاسيكي وأجمل الموشحات مع رشا رزق، والموسيقى التراثية الفولكلورية للجزيرة السورية، باللغات الآشورية والسريانية والكردية والأرمينية، مع عازف البزق ابراهيم كيفو. إذاً، هي رحلة فنية في رحاب بلد تتصدر أخبار الدم والقتل اليومي فيه، عناوين صحف ومجلات، ونشرات إخبارية تلفزيونية. اللافت في الأمسية قبل الحديث عن الأمور الفنية، الحضور السوري الكثيف في قاعة القصر العتيقة. اللهجة السورية تعلو فوق كل اللهجات. سلامات بين الحاضرين، كأنهم يعرفون بعضهم بعضاً منذ زمن. يتشارك الحاضرون الدمع. دمع الغصة والاشتياق والتهجير القسري. شبان وشابات رقصوا وتمايلوا إنما بوجع، فالفرح الذي يشعرون به وليد اللحظة، ولا يستمر في ظل وجود عائلات عالقة تحت القصف أو الركام. يسألون بعضهم عن الأمكنة التي يعيشون فيها، وكيفية تدبر أمورهم، فتسمع أجوبة غير مرضية ومحزنة. تنوع الأنماط الموسيقية إفتتِحت الأمسية مع عازف الكلارينيت كنان العظمة، وهو فنان سوري معروف في لبنان لمشاركته الدائمة في عدد من الفعاليات، وإنفتاحه على أنواع موسيقية مختلفة، ومحاولاته التجريبية لخلق نمط موسيقي خاص به. تعبّر المعزوفات التي قدّمها العظمة (مواليد 1976)، عن وعي موسيقي لافت، وخبرة وتقنية عالية في التعامل مع الآلة وترويضها كما يحلو له. واللافت أن بعض ألحانه كأنها أنين وصراخ أو ما بينهما. يكتم العازف السوري نَفَسَه ويُخرجه كأنه صاروخ سقط للتو على بيت في قرية سورية. هذا الصوت يتحول لاحقاً الى عويل وبكاء... تختصر المعزوفات التي قدّمها العظمة في وصلته ما يحصل في بلده. واستطاع من خلال أنغامه جمع معارك دائرة تعصف بوطنه، مع مرافقة لأنغام البيانو التي بدت كأنها تشيّع براءة مقتولة. ومن المقطوعات التي قدّمها «المطارات»، وقال في بدايتها ضاحكاً: « لحنت هذه القطعة وأنا في غرفة التفتيش التي بتنا نوضع فيها كسوريين في مطارات العالم مع الأصدقاء من أفغانستان وباكستان... أهديها إلى هؤلاء الأصدقاء.. وإلى اللاجئين السوريين في كل العالم». وطلب من الجمهور أن يرفع صوته، فأوقات «انخفاض الصوت والهمس قد ولّت». يبرز هنا أيضاً مدى التزام الفنان بقضية ما، والدفاع عنها وتبنيها في أعمال موسيقية، فمن يقول أن الفنان يجب ألا تكون له وجهة نظر في ما يحصل، أو رأي مباشر، أو أن يفصل موقفه السياسي عن الفني، مخطئ تماماً. بدأ العظمة دراسة الموسيقى في سورية، وأكملها في روسيا، ونال درجة الماجستير من معهد جوليارد في نيويورك متتلمذاً على تشارلز نيديش. ويحضر حالياً لشهادة الدكتوراه في الموسيقى في جامعة نيويورك. نال الجائزة الأولى في مسابقة نيكولاي روبنشتاين الدولية للعازفين الشباب في موسكو عام 1997. قدّم البومين مع فرقته «حوار»، وشارك في تأسيس عدد من الفرق الموسيقية، وهو المدير الفني لأوركسترا مهرجان دمشق لموسيقى الحجرة. وفي الفقرة الثانية من الأمسية، صدحت رشا رزق بصوتها الجميل والدافئ، وأعادت الحضور الى زمن جميل بموشحات وقدود حلبية، مع مشاركة لتخت شرقي. ومن يرَ هذه الفتاة الجميلة والمهذبة على المسرح، يعتقدْ أن تجاربها تنحصر بالأعمال القديمة، ولكنها منفتحة على التجارب الجديدة، وتعتبر من أهم أصوات الأغنية الشبابية في سورية مع فرقتها «اطار شمع» التي تجمع في أشكالها الموسيقية بين البوب والروك واللاتيني. تراث الحسكة إستهل عازف البزق إبراهيم كيفو وصلته بتحية الجمهور بلغات خمس، قائلا: «أنا آت من سورية الحديقة الكبيرة المليئة بالياسمين، لأغني لكم». وشارك كيفو المغني والعازف والملحن، فرقة تقليدية مؤلفة من عازفي بزق وكمان وقانون وإيقاع. يأتي كيفو من محافظة الحسكة وهو ممثل لتراثها الشعبي الذي يجمع كل أنواع فولكلور تلك المنطقة الغنية إثنياً، أي الكردي والعربي والآشوري والسرياني، إضافة إلى تلك الآتية من أصوله العائلية الأرمينية والتركية. قدّم أغنيات تراثية كانت تؤدى في مناسبات مختلفة، كالحرب والفرح والأعمال القروية التقليدية. وتوجه الى الجمهور بالقول: «أتمنى السلام والأمان لسورية وللبنان». وسرعان ما تحوّل عرضه الى احتفال تشكلت فيه حلقات الرقص والدبكة التي تشابكت فيها أيدي الشباب والشابات السوريين، واختلطت فيه الضحكات بدموع التأثر. درس كيفو الموسيقى في حلب. وهو عازف بزق بارع وصاحب صوت صلب وشخصية طيبة ومتواضعة وبسيطة ككل أبناء الضواحي. زار لبنان أكثر من مرّة، وقدّم أمسيات في أوروبا ودول عربية، حيث أدّى تراثاً متناقَلاً أو أغنيات خاصة مستمَدَّة نصاً وموسيقى من بيئته. لقَّب بسفير الأغنية الجزراوية، ونال حب جمهور الجزيرة، وهو المعروف بالفنان الشامل ويغني بست لغات حية موجودة في منطقة الجزيرة. يقول إن مشروعه الفني هو تعريف العالم بالتراث الجزراوي، والحفاظ عليه من الضياع.