تُقدّم الموسيقية الفلسطينية هدى عصفور، في ألبومها الأول «جاي ورايحة»، الحزن والفرح في آن واحد. تعطي المستمع جرعة كبيرة من الأمل، وتُحفز مخيّلته على كسر الحواجز والعودة به إلى ملاعب الطفولة. تعدّد الثقافات التي اختبرتها الفنانة في حياتها (فلسطين، تونس، مصر، العراق)، وهي المقيمة في الولاياتالمتحدة منذ سنوات، وتعرّفها بعمق إلى تراث بلاد الشام الفني، أغنيَا العمل، فحمل بين طياته مزيجاً حضارياً وفولكلورياً أحياناً. تأخذ عصفور على عاتقها، مع عدد من الموسيقيين المغتربين، التعريف بالموسيقى الشرقية، في عدد من المهرجانات والحفلات، ممزوجة بتفاصيل وإيحاءات من ثقافات أخرى. ولا شك في أن عزف هذا النوع من الموسيقى في أميركا يزخر بالتحديات نظراً إلى اختلاف اللغة والثقافة، إلا أنه أداة للتعريف بالثقافة العربية، ووسيلة لإيصال رسالة مختلفة عمّا يسود الشارع الأميركي من أفكار عن العالم العربي عموماً، على حد قول عصفور. فالموسيقى التي تقدّمها شرقية، إنما في قالب معاصر، وهو اتجاه جديد ما زال يواجه تحديات، لا سيما من ناحية الانتشار والوصول إلى قاعدة جماهيرية أوسع. وتوضح الفنانة الفلسطينية في حديث مع «الحياة» أن تجربتها في الولاياتالمتحدة تحمل بعض الخصوصية، إذ حتّمت عليها ظروف دراستها أن تقطن العاصمة وتعرفها أكثر من غيرها. لكن هذا لم يحدّ من تجربتها. فواشنطن تضم دوائر متعددة الثقافات والتيارات الفكرية، ما مكّنها من الإحتكاك والتعاون مع موسيقيين أجانب، فساهم ذلك في توسيع خياراتها الموسيقية وصقلها. تقول: «ما أقدمه يلاقي اهتماماً من الجاليات العربية والأجنبية على حد سواء. فالمقولة الشهيرة أن الموسيقى لغة عالمية يفهمها الجميع أثبتت صحتها»، موضحة أن ما يصل الى الجمهور، هو صدق العمل والتجربة التي يعكسها بغض النظر عن اللغة. عصفور التي فازت بمنحة «المورد الثقافي» العام 2009 لإطلاق مشروعها الموسيقي، تترجم أوجاع شعبها ومشاكله. تدخل فلسطين من طريق الموسيقى، فتتابع المجازر عن كثب، تلتقط في الإيقاع وتناغم الآلات عشرات الجنازات، تشمّ رائحة البرتقال، تزور أطفالاً يتامى، وتواكب الانتفاضة الثانية، لتؤلف من كل هذه المشاهد موسيقى احتجاجية غاضبة، وتأملية أحياناً. التوليفة الموسيقية التي اتبعتها توحي بالكثير، فهي تنشط الذاكرة للعودة الى مرحلة الطفولة عبر آلات النفخ، ومزاوجتها مع العود لطرح عشرات الأسئلة عن الواقع وعن المستقبل وما يحمله الغد لبلد يتخبّط شعبه بين الانقسامات الداخلية وظلم المجتمع الدولي. ومن أكثر المعزوفات التي تدل على ذلك، «لور» المميزة بتوزيعها الموسيقي. فالحوار بين آلتي الكلارينيت (كنان العظمة) والعود (هدى عصفور) هو حوار بين الماضي والمستقبل، بين الحياة والموت، بين اللوعة والفراق، بين الحزن والفرح. عتاب الشهداء والصمت تجاه القضية الفلسطينية، وبكاء على ضفاف جنين. يسبغ حنان الكلارينيت على المعزوفة رداء طفولياً، لتنفتح أبواب المخيلة على بساتين خضراء وأشجار زيتون، فيما يتولى العود محاكاة أزيز الرصاص وهدير القصف الذي يحرق كل هذه الخضرة. عندما بدأت عصفور العمل على مشروعها، أرادته أن يكون سيرة ذاتية موسيقية معاصرة. فبلورت ألحانها على مدى سبع سنوات. ولأن المشروع نابع من تجربة شخصية، فهو تعبير عن طيف واسع من عواطف ومشاعر عاشتها صاحبته، وعن معتقدات آمنت بها. «فلسطين غربتي» وتتميز أسطوانة «جاي ورايحة» بحميميتها التي قد تصلح لأن تكون رؤية لمستقبل أفضل. وما ساعد عصفور في توليف هذه الرؤية، تعاونها مع موسيقيين لهم تجارب فنية جدية وهادفة، وهم السوري كنان العظمة، وعازف البزق الفلسطيني نديم خوري، وعازف الباص الأميركي كريس فن، ومواطنه جون هاتفيلد عازف الإيقاع. هذه التركيبة الموسيقية بتجاربها المتعددة، ساهمت في إغناء العمل وعدم حصره ضمن إطار ضيق، لما فيه من مساحة للتجريب الموسيقي. وعن طريقة تعبيرها عن وطنها في أعمالها، تقول عصفور: «فلسطين هي غربتي، غربة داخل الوطن وخارجه، وهي جزء لا يتجزأ من هويتي التي تنعكس في كل جوانبها على موسيقاي». وتضيف: «أعتقد أن الفن قادر على كسر الحواجز وتوجيه الرسائل، ومواجهة السلاح بالموسيقى هي إحدى هذه الرسائل. والفن بالتأكيد أداة للتعبير عن العديد من الحالات، إحداها الغضب. إلا أن تصعيد هذا الغضب إلى مرحلة التعبير الفني يتطلب في أحيان كثيرة سلاماً خاصاً ينبع من إمتلاك أداة للتعبير». وتميزت الأجواء التي رافقت «ولادة» العمل بتناغم الموسيقيين وحيويتهم. وخلال سبعة أشهر، أنهت عصفور وفريق عملها تفاصيل التسجيل والميكساج، بإشراف مهندسَي الصوت فرانك ميرشانت وتشارلي بيلزر، ومصمم الغرافيك المصري أحمد فولة. وتعتبر هدى عصفور أن التجربة كانت فريدة، خصوصاً أن فريق العمل استطاع تجسيد رؤيتها الموسيقية بحِرَفية. ومن خلال ألبومها توجه عصفور رسالة مفادها أن المؤطَّرات السياسية والاجتماعية، في عالمنا العربي، تمتد حتى إلى أحلامنا. لذلك، عملت مع مصمّم غلاف الألبوم على إعادة رسم كوكب المريخ بلا حدود أو قيود، لتقول إن الموسيقى هي وسيلتها العابرة للحواجز بين البشر. وعصفور التي تتابع دراسة الدكتوراه في الهندسة الطبية في واشنطن، شاركت في العديد من ورش العمل الموسيقية حول العالم، وهي متعمقة في موسيقى بلاد الشام، وتجيد العزف على العود والقانون، وألفت الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام الوثائقية.