أحيا الفنان السوري سعيد يوسف أخيراً، أمسية موسيقية في «دار الأوبرا» في دمشق، حضرها حشد من محبي هذا الفنان، ومن عشاق نغمات آلة البزق الحنونة. وعزف يوسف «منفرداً» على الآلة العزيزة على قلبه، البزق، مجموعة من المعزوفات والتقاسيم والارتجالات الموسيقية بعنوان «ألحان جزراوية»، محاولاً التنويع، والانتقال من مقام موسيقي إلى آخر، محافظاً خلال أكثر من ساعة، وهي مدة الحفلة، على إيقاع موسيقي محبب وجذاب ألهب مشاعر الحضور. ومعروف عن سعيد يوسف تعامله المتقن مع هذه الآلة الموسيقية الوترية التي منحته كل أسرارها، مثلما بقي هو وفياً، ومحباً لهذه الآلة إلى درجة لم يعد ممكناً، تخيل هذا الفنان إلا وهو يعانقها، يحنو عليها برفق، فتصدح عندئذ بأعذب الألحان. ويخرج يوسف غالباً عن البرنامج المحدد ليحلق في سماء الموسيقى، مستوحياً، كما يقول، «من روح المكان ومن تعابير وجوه الحاضرين التقاسيم والمقطوعات التي تفرض نفسها». قسّمت الأمسية إلى قسمين، في البداية عزف يوسف على آلة البزق المعروفة، أما في القسم الثاني فعزف على آلة بزق أخرى أضيف إليها وتر غليظ يمنحها صوتاً متميزاً يمزج بين صوت العود وصوت البزق. كان صوت البزق المؤثر يسمو في فضاء قاعة الدراما في دار الأوبرا، وقاطعه الجمهور مرات عدة بالتصفيق على رغم التنبيه في بداية الحفلة الى ضرورة التزام الصمت وعدم التصفيق. ويقر يوسف بأن «العزف المنفرد يعتبر من أصعب المهارات الموسيقية. فالعازف وحيد مع آلته أمام الجمهور، وعليه أن يشد انتباهه حتى اللحظة الأخيرة، لذلك على العازف تسخير كل خبراته الموسيقية ومهاراته في العزف، واللجوء إلى التنويع قدر الإمكان ليبقي جمهوره مشدوداً نحوه». وطالب يوسف بضرورة إيلاء مزيد من الاهتمام لآلة البزق لأنها تعتبر، بحسب رأيه، «من الآلات الأساسية في التخت الشرقي، ولديها الإمكانات التقنية الكبيرة في عزف غالبية المقامات الموسيقية». ويعد يوسف واحداً من أبرز العازفين في عموم المنطقة والعالم، وهو أول من أدخل آلة البزق إلى الجزيرة السورية، إذ استطاع أن يجد لنفسه أسلوباً خاصاً في العزف مستثمراً ثراء المنطقة بالأغاني والموسيقى الكردية والتركية والعربية والفارسية. وتمكن، بدأبه وحبه لهذه الآلة، من تأسيس مدرسة فنية في الغناء والعزف، راح الكثير من فناني الجزيرة يسيرون على نهجها. وهو ألّف كلمات الأغاني ولحّن للكثير من الفنانين المعروفين، مثل: شفان برور وشيرين وكليستان وفاته وآواز وسميرة توفيق والفرنسي جوني أوبير، والتركي علي شان وأينور دوغان. عمل في إذاعة لبنان مطلع السبعينات، وسُجلت له الكثير من المعزوفات، وشارك في بعض البرامج فيها، كما عمل في إذاعة دمشق في أواسط السبعينات، ولا يزال بعض أعماله محفوظاً في أرشيفها. انتسب إلى نقابة الفنانين في سورية، وأحيا نحو مئة حفلة موسيقية في مختلف البلدان الأوروبية والعربية والأفريقية. كُرّم في مناسبات كثيرة، ونال جوائز عالمية، أهمها: طابع تذكاري عليه صورته من إحدى الجمعيات السويسرية. كما سجلت له منظمة «يونسكو» اسطوانة ذهبية أواسط السبعينات، بعدما أحيا، بالمشاركة مع عازف العود العراقي منير بشير، عدداً من الحفلات في الدول الأوروبية، بالإضافة إلى جوائز منحتها له جمعيات ثقافية، في كل من لبنان وتركيا والعراق والدنمارك والنمسا. «أصابعه زَيْ الحرير»، هكذا وصفه الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، بينما قال عنه أمير البزق الراحل محمد عبد الكريم: «لا تموت آلة البزق في سورية طالما هناك شخص يُدعى سعيد يوسف»، وأوصى عبد الكريم خلال مرضه بأن يهدى بزقه إلى يوسف الذي عزف فعلاً على آلة الراحل في أحد حواراته التلفزيونية. وعلى رغم انه أمضى فترات من حياته في أوروبا، ويزور دمشق باستمرار، إلا أن مدينة القامشلي، البسيطة النائية، تظل المحطة المضيئة في حياته، إذ لا يستطيع مبارحة هذه المدينة لفترات طويلة، تلك المدينة التي عرفت ب «مدينة الحب» تيمناً بإحدى أغانيه المعروفة.