«نزلني وقلي أنت رقمك 8، مين ما ناداك بغير 8 ما بترد، بتنسى اسم أمك وأبوك، كلن صارو 8». هكذا، بدأ أحمد ابن ال23 عاماً ذكرياته السود في معتقل النظام السوري، وهكذا أنهى كلامه مع دمعة خرجت عنوة وبغفلة من وعيه. قبل أن يتبدل اسم أحمد للرقم 8، كان يملك محلاً لبيع الموبايلات في قطنا بريف دمشق، وشأنه شأن كثير من الشباب السوري، بدأ الشاب عمله في الثورة عبر العمل الإغاثي مع آخرين، إضافة إلى العمل الإعلامي كتزويد المحطات بالأخبار والفيديوات، وليبدأ الفصل الأسود في حياته عند اعتقاله. بين قطنا ودمشق تقع السومرية «سوق للمهربين ومركز تجمع للشبيحة»، وفي يوم اعتقاله كان أحمد يحمل معه 80 كيس دم، وأجهزة موبايل «الثريا» وأدوية مختلفة، وعند وصوله إلى السومرية وجد دورية الأمن بانتظاره وتم اعتقاله فوراً من دون أي سؤال، ليعلم بعد ذلك أن السائق الذي سلّمه الأغراض تم اعتقاله واعترف عنه. في المعتقل «بدأوا بضربي منذ اللحظة الأولى التي وُضعت بها في السيارة» يقول أحمد، وعند التفتيش وجدوا معه 4 موبايلات ما أثار جنونهم وانعكس ذلك تضاعفاً في حجم الضرب. في فرع الاستخبارات الجوية بدرعا حقق معه عقيد، وهدده منذ اللحظة الأولى التي رآه فيها رافعاً عصاه «الخيزرانة»: «احكي من الأول أحسنلك وإلا!»، ولم يكمل جملته إذ قامت الحيزرانة بمهمة إكمال التهديد. وتتالت الخطوات المتعارف عليها والتي يسمع بها كل السوريين، من ركل وضرب وصولاً إلى قبو، ومن ثم حلاقة الشعر بآلة حلاقة غير صالحة للاستعمال ما يترك الكثير من الندوب والجروح وألم اعتقده أحمد ضخماً، ولكنه اكتشف أنه لا شيء مقارنة بما سيراه بعد بضع دقائق من ضرب وشتائم وإهانات. «كنت أقسم اليمين تلو اليمين بيني وبين نفسي أنني لن أعترف على أحد ولو قطعوني إرباً»، وللحقيقة فإنهم في الفرع تركوه من فترة الظهر حتى المساء، ليدخل عنصر ويأمره بخلع ثيابه كلها والبقاء بالثياب الداخلية فقط، وأدخلوه إلى غرفة رأى فيها 6 اشخاص كل واحد منهم يمسك بموبايل، وآخر يفتش في أغراضه التي أخذوها منه. حفلة الضرب بدأت بسرعة وبلا أية أسئلة أو انتظار للأجوبة، «دفعني أحدهم إلى الأرض وربطوا قدمي وتم رفعهما «الفلقة» وبدأ الضرب بالكرباج، وكنت كلما صرخت زادوه». بعد أن تورمت قدماه تم وضعهما في الماء الساخن، ولم يستطع أن يميز بين مشاعر القهر والإهانة وبين الألم الشديد. الضرب على القدمين تكرر كثيراً، ولكن ما إن توقفوا حتى طلب منهم العقيد «صلبه»، فثبتوا يديه بباب حديد، وتم رفعه ليبقى طرف إصبعه ملامساً الأرض، والضرب يأتي من كل الجهات وبكل الأشكال سواء بالرفس أو باليد أو حتى بالكرباج. صراخه لم يأتِ بنتيجة وعندما شعروا بالملل كمموا فمه بلاصق عريض لمنع صوته من الوصول إليهم. «بقيت مصلوباً الليل بكامله وفي الصباح رموني في زنزانة جماعية، ليتلقفني عمو أبو محمد من خربة غزالة، الذي غطاني فوراً وألبسني قطعة من ثيابه، ووضع في فمي قطعة من الخبز، ومباشرة بدأ بتدليك قدمي وكأنه يعرف الطقوس كلها». كانوا يتركونه في النهار في الزنزانة ليعتني به السجناء، ويأخذونه في المساء بهدف تعذيبه، وكانت كل ليلة تحمل أداة وطريقة جديدة في التعذيب، فأصبح الكرباج أثخن فأثخن، لنصل إلى فصل لم نسمع به من قبل عبر نقع الكرباج بماء الأسيد، فصار الأسيد لا يفارقه ليأكل لحم أحمد في كل مرة ينزل فيها على جسده، وتحول ماء الشرب إلى أسيد، فأيقن أنه ما من جدوى من طلب الماء. الليلة السوداء بعد خمسة أيام قرر العقيد أن يشرف على تعذيب أحمد بنفسه. يقول أحمد: «بعد صلبي في تلك الليلة، جلس العقيد أمامي وقال لي: غني، وعندما ارتبكت سألته بنظراتي عن مدى جديته، أخبرني أنه سيشغل المسجلة على أغنية وعلي أن أحفظها وأغنيها». لم يستطع أحمد أن يغني، لأنه وعلى رغم محاولاته الجدية حفظ الأغنية إلا أنها كانت تختفي من ذهنه بمجرد أن يتم إطفاء المسجل، والأغاني كانت مخصصة للأسد. تم حرق شعر جسمه بقداحة العقيد نفسه، ومن ثم حرق أجزاء من الجسد بواسطة قطعة معدنية تم تسخينها. عندما طلع عليهم نهار اليوم الثاني جاءه أحد العناصر وهمس في أذنه: «العقيد جانن، اليوم مات أخوه». علم بعدها أحمد أن ذلك اليوم هو يوم مجزرة الحولة 25 أيار (مايو) 2012 التي ضج بها العالم «لم أصدق عنصر الأمن طبعاً، ولكنني سرعان ما ندمت على عدم تصديقي عندما رأيت وجه العقيد وتأكدت أنه سيقتلني لا محالة». «قبل أن يضعوني في الزنزانة قال لي العقيد بصوت لن أنساه ما حييت: أنت رقمك 8 ، مين ما ناداك بغير 8 ما بترد، بتنسى اسم أمك وأبوك، كلن صارو 8». أحمد قضى سنة في سجن النظام، خرج ولا تزال آثار الحروق والندبات تغطي جسده، هرب إلى تركيا حيث قابلناه، وغادر إلى الأردن لتلقي العلاج. أم أحمد لا تزال داخل سورية وتنام كل ليلة لتلتقي مع كوابيسها التي لم تفارقها منذ اعتقال ابنها رغم خروجه.