بلغ ضغط النازحين السوريين في لبنان ذروته على المجتمع اللبناني ونسيجه والخزينة العامة والاقتصاد وقطاع الخدمات، مع وصول عددهم إلى مليون، في بلد تعداد سكانه 4 ملايين. وأقرّت الأممالمتحدة بتداعيات هذا النزوح والمتمثلة بمنافسة على فرص العمل مع تدني الأجور، وآثار سلبية على الحياة اليومية للمجتمعات اللبنانية المستضيفة للنازحين. ورأى وزير المال السابق جورج قرم في حديث إلى «الحياة»، أن تدفق اللاجئين «يشكل عبئاً نفسياً على اللبنانيين أكثر منه اقتصادياً ومالياً، وهو يخيفهم لجهة التوازنات الديموغرافية الدقيقة والحساسة بين الطوائف والمذاهب، مع قلق من أن يتحوّل كثر منهم إلى مقيمين دائمين، كما هي حال اللاجئين الفلسطينيين». ومن الجانب الاقتصادي والمالي، رأى أن «عدداً كبيراً من اللاجئين هم من الميسورين الذين أتوا إلى لبنان بقدرة شرائية وإمكانات مالية، ما ساهم في تنشيط السوق العقارية وحركة الشقق المفروشة، ما يعوّض (نسبياً) غياب سياحة العرب الخليجيين الأثرياء». ولم يغفل اللاجئين من الفئة المتوسطة الحال أو الفقيرة، لأن «وجودهم يكوّن مصدر طلب إضافياً على المنتجات اللبنانية الغذائية وغيرها، ولو كان استهلاكهم متدنياً نظراً إلى قلّة إمكاناتهم المالية». ولفت قرم إلى جوانب إيجابية أخرى، تتمثل في «عدم وجود مخيمات للاجئين، لأسباب كثيرة منها استضافة العائلات اللبنانية لهم تحديداً في المدن والبلدات المجاورة للحدود، وربما تربط بين هذه العائلات صلة قرابة». كما أفضت «الأوضاع المأسوية في سورية إلى زيادة حركة التصدير من لبنان إليها سواء عبر المنافذ الحدودية أو تهريباً، ما يفسّر ربما الزيادة في حركة الاستيراد إلى لبنان وإعادة التصدير إلى سورية». ورجّح أن هذه الحركة التجارية المستجدة «تُغطّى نقداً وليس عبر تحويلات مصرفية، في ضوء العقوبات الصارمة والمراقبة الشديدة للحسابات المصرفية العائدة لمواطنين سوريين». لذا «قد يكون العجز في ميزان المدفوعات المسجل في العامين الماضيين صورياً، في ظل وجود تبادلات موازية غير منظورة وتُدفع نقداً». وأكد قرم، أن لبنان «لم يتكلّف (نفقات) على اللاجئين، والبرهان على ذلك استقرار مستوى الإنفاق، بل قد يكون الوجه السلبي بالنسبة إلى الدولة هو الضغط الحاصل على المدارس والجامعات الرسمية وعلى المستشفيات». وذكّر الأمين العام لجمعية مصارف لبنان مكرم صادر، بالمنافع الاقتصادية والمالية والخدماتية المتبادلة قبل نشوب الحرب في سورية، قبل عرضه التداعيات الراهنة، لافتاً إلى أن لبنان كان «يستفيد من اليد العاملة والمنتجات المستوردة لا سيما منها الزراعية وكانت تبقي أسعار سلة الغذاء في مستوى مقبول معيشياً وتحديداً لذوي الدخل المحدود، فضلاً عن حركة ترانزيت الصادرات عبر البرّ السوري للوصول إلى الأسواق الخارجية، واعتماد السياح العرب واللبنانيين المقيمين في دول الخليج على العبور براً، إضافة إلى السياحة المتبادلة بين البلدين». وأشار إلى فوائد كانت تكتسبها سورية، من «المداخيل المحققة بالعملات الصعبة لمصلحة اقتصادها، من تحويلات العاملين في لبنان إلى أسرهم». وقدّر عددهم في ذلك الوقت «بنحو 250 ألفاً وقيمة التحويلات بنحو بليون دولار». وتمثل المصدر الثاني لهذه المداخيل ب «مبيعات المنتجات الزراعية ورسوم العبور عبر الأراضي السورية». وكانت الاستفادة المتبادلة لمصلحة البلدين تتمثل ولا تزال قائمة على رغم تراجعها، بالخدمات المصرفية والمالية التي يقدمها لبنان، إذ لفت صادر إلى أن «القطاع المصرفي اللبناني كان يموّل التجارة الخارجية السورية عبر فتح الاعتمادات المستندية لمصلحة المصدرين والتجار وخطابات الضمانات الصادرة عنها». وأوضح أن هذه العمليات «كانت تجرى إما مباشرة من المصارف في لبنان أو من خلال فروع المصارف العاملة في السوق السورية وفي الخارج (فرنسا وقبرص وغيرها)». وتحدّث صادر عن الترابط بين الاقتصادين اللبناني والسوري، مستشهداً بدراسة ل «إسكوا» أظهرت أن «عامل هذا الترابط هو 0.2 في الاتجاهين، ما يعني أن لمجرّد تسجيل الاقتصاد السوري نمواً نسبته واحد في المئة أو تراجعاً بالمعدل ذاته، ينعكس نمواً أو انخفاضاً نسبته 0.2 في المئة في لبنان». واعتبر أن هذا الترابط «كبير»، عازياً «جزءاً من تباطؤ النمو في الاقتصاد اللبناني إلى تراجع النمو في الاقتصاد السوري وتالياً في حجم المبادلات التجارية والمالية». «إسكوا» وأعلن أن دراسة «إسكوا» أضاءت على «جانب مهم آخر يتمثّل في وجود اليد العاملة السورية في لبنان حتى قبل الأحداث، وأثرها على مستوى أجور اليد العاملة الناشطة في قطاعات تستقطب كثافة عمالية وتحديداً في البناء والزراعة». وأوضح أن لوجود هذه اليد العاملة الرخيصة نسبياً مقارنة بكلفة تلك اللبنانية، «تأثيراً إيجابياً على كلفة الإنتاج في النشاطات المذكورة من جهة، وسلبياً على أجور العاملين اللبنانيين». وأشار إلى أن دراسة «إسكوا» رأت في هذا السياق، أن «في حال اندمجت اليد العاملة السورية الطارئة بسبب الحرب في سوق العمل اللبنانية، ستؤثر على كلفة الأجور بخفضها بنسبة 14 في المئة». لذا اعتبر صادر، أن هذا الوضع «سيعكس استمرار تدني أجور اليد العاملة من جهة، وسيؤثر في حجم اليد العاملة اللبنانية وفي إيجاد فرص عمل لها في الداخل، بكلام آخر يرتبط بهذا التأثير السلبي مزيد من هجرة اللبنانيين بسبب ضيق سوق العمل والفرص فيها». وانعكست تداعيات الحرب في سورية تراجعاً في نشاط القطاع المصرفي اللبناني العامل في أسواقها، بوجود خمسة من أكبر المصارف، وأكد صادر أنها «لا تزال تعمل وحصّنت أوضاعها تجاه أي أخطار». وكشف أن فروع هذه المصارف «حققت الذروة في موجوداتها عام 2010، ببلوغ الموجودات 8 بلايين دولار، وقيمة المداخيل 47 مليوناً». لكن هذين البندين «تراجعا» بعد اندلاع الأحداث، مشيراً إلى «وصول الموجودات إلى 5.4 بليون دولار نهاية عام 2011 ، و3.7 بليون نهاية عام 2012». ورأى أن هذا التراجع «يبيّن مدى تأثير انخفاض سعر صرف الليرة السورية في مقابل الدولار، إذ يُستنتج أن النشاط الإجمالي تراجع في العامين الماضيين بنسبة 25 في المئة مقوماً بالليرة السورية، وبنسبة 63 في المئة مقوماً بالدولار». وأوضح صادر، أن نتيجة «تراجع سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، باتت الموجودات في فروع المصارف اللبنانية الخمسة في سورية تشكل نسبة 4.4 في المئة فقط من الموجودات الإجمالية للمصارف الأم في لبنان، ومداخيلها نسبة 2 في المئة نهاية 2011». ولفت إلى أن الموجودات في الفروع الخمسة «لا تتعدى نسبة 2 في المئة، مقارنة بها في القطاع المصرفي التجاري والاستثماري في لبنان». وذكّر بأن السلطات الرقابية والنقدية في لبنان «ألزمت المصارف اللبنانية الموجودة في السوق السورية، تكوين مؤونات بقيمة 400 مليون دولار، لتغطية أي خسارة أو تدنٍ في قيمة موجوداتها». وشدد على أن نشاط هذه الفروع مستمر، على رغم تراجعه «بنسبة تخطت بالمتوسط 60 في المئة و70 و80 في المئة في بعضها، وتحقق هذه المؤسسات أرباحاً من عمليات التشغيل، مع تأكيدها استمرار التزام زبائنها تسديد متوجباتهم من القروض، باستثناء شريحة صغيرة تمثّل الذي خسروا مداخليهم».