وجه الرئيس السابق للحكومة اللبنانية سعد الحريري كلمة أمس، إلى اللبنانيين توقف فيها عند «الأيام المشحونة بالانقسام والقلق والتشتت وتبادل الكراهيات وبلوغ الفرز الطائفي والمذهبي أعلى مستوياته، بحيث يبدو الكلام إلى الشعب اللبناني، كلاماً موجهاً إلى الشعوب اللبنانية». وأسف بشدة على «من سيصفق ويرفع الأصوات بالتهليل، ومن سيصم الآذان في المقابل عن الاستماع ويتخذ من الفرز القائم وسيلة لإعلاء شأن الطائفة على مصلحة الوطن»، قائلاً: «لطالما شكّل التنوع الطائفي والمذهبي قيمة مضافة في حياتنا الوطنية وعكس مصادر الغنى الثقافي والإنساني في التجربة اللبنانية، وبقي على رغم الأهوال التي حلت بلبنان خلال العقود الثلاثة الأخيرة، القاعدة التي لا غنى عنها في بناء أسس العيش المشترك وحماية مقومات الدولة الموحدة». وأضاف: «اختلفنا كمجموعات وقوى سياسية وطائفية في الكثير من مراحل حياتنا المشتركة، وشارك بعضنا في حروب داخلية أو خارجية الأبعاد، وساهم في شكل أو في آخر في انزلاق لبنان إلى مهاوي الصراعات الدموية واقتسام خيرات الدولة ومواقعها، لكننا كنا نجد دائماً في صفوفنا ومحيطنا العربي، ما يعيننا على النهوض من جديد وابتكار الوسائل والمعادلات والمصالحات التي تعيد إحياء فكرة الدولة اللبنانية ونظامها الديموقراطي. غير أن ما يواجه لبنان راهناً، يقترب من حافة الخطر الوجودي ويهدد رسالة لبنان وقيم التنوع الثقافي والمذهبي في العمق، ما يحملني على دق ناقوس الإنذار، ليصل إلى مسامع كل اللبنانيين من دون استثناء، خصوصاً مسامع الفئات التي تضعنا في خانة الخصوم وترمينا أحياناً بتهم الخيانة والارتهان للخارج لأن أشد ما أخشاه حيال الأوضاع التي تواجه لبنان وإصرار جهة سياسية بعينها على عسكرة إحدى المكونات الرئيسة في البلاد وإخراجها عن طوع الدولة وتوريطها في مهمات انتحارية، أن يقع لبنان بكل مجموعاته الطائفية فريسة الضياع في صراعات أهلية ومذهبية، من دون أن نجد من يعيننا هذه المرة، من الأشقاء والأصدقاء على لملمة الجراح وركام الجنون الطائفي، أو أن يقع لبنان مجدداً فريسة السقوط في مشروع مريب من مشاريع الهيمنة الخارجية بعدما تحرر في انتفاضة عام 2005 من هيمنة النظام الأمني السوري». منابع الخطر في النسيج السياسي وحذر الحريري من أن «وطننا في خطر ويجب أن تتوقف عنده كل المجموعات الطائفية والمذهبية والسياسية، وأن تمعن التفكير في المنابع الأصلية لهذا الخطر. ولا أخفيكم، أن شعوري بالقلق على المصير الوطني يتجاوز مشاعر القلق التي عشناها جميعاً يوم اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، مع معرفتي وقناعتي بوجود أسباب مشتركة تجمع بي القلقين». وقال: «من عادة اللبنانيين في أدبياتهم السياسية أن يرموا أسباب الأزمات والمشاكل على الآخرين، لا سيما على الأعداء وفي طليعتهم العدو الإسرائيلي. وهي عادة فيها الكثير من الصحة، خصوصاً مع وجود الكيان الإسرائيلي على حدودنا والتحديات الاستراتيجية التي يطرحها هذا الوجود، لكنها في حالتنا اللبنانية لا تشكل في هذه المرحلة كل الصحة، لأن المنابع الحقيقية للخطر باتت تكمن في النسيج السياسي للبلاد، حيث استطاع حزب الله أن يقتطع منه مساحة كبيرة، تحولت بفعل الدعم الإيراني غير المسبوق، وعلى مدى أكثر من عشرين سنة، إلى قوة عسكرية وأمنية تمادت في فرض آليات عملها على الشأن العام، وعلى السياسات العامة للدولة ومؤسساتها الدستورية». وتابع قائلاً: «حاولنا خلال السنوات الأخيرة، أن نعمل مع الكثير من القوى السياسية الفاعلة على معالجة الواقع العسكري والأمني لحزب الله، وأن ندفع في اتجاه استراتيجية دفاعية تعيد الاعتبار لمكانة الدولة في مجال الدفاع الوطني، وتحفظ لحزب الله دوره وتضحيات شبابه في مواجهة العدوان الإسرائيلي، لكن قيادة الحزب كانت تتحرك على وقع مشروع آخر، تعددت وجوهه الأمنية والسياسية والعسكرية في بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع وجبل لبنان وكل المناطق التي تغلغلت فيها أجهزة الحزب وسراياه المسلحة، وصولاً إلى إعلان الحرب على ثورة الشعب السوري واستباحة الحدود اللبنانية من خلال نقل آلاف المقاتلين المزودين بالآليات والسلاح المدفعي إلى الداخل السوري، على مرأى من السلطات اللبنانية الرسمية وأجهزتها الأمنية والعسكرية». وقال: «نعم، أيها اللبنانيون، إن حزب الله يضع المصير الوطني مرة أخرى أمام منعطف خطير. وعندما نقول المصير الوطني لا نعني بذلك مصير فئة أو طائفة، بل نتحدث عن خطر يحيق بالجميع من دون استثناء، لأن أحداً من المجموعات اللبنانية، أي من السّنة والشيعة والدروز والطوائف المسيحية مجتمعة، لا يمكن أن يكون في منأى عن المنزلق الذي يتولى حزب الله جر لبنان إليه. هو قرر ومن طرف واحد، أن يخترق كل الأصول والقوانين والقواعد التي ترعى الحياة الوطنية بين اللبنانيين، فأعطى نفسه، كحزب وكمجموعة طائفية مسلحة، حقوق الدول في اتخاذ القرارات المصيرية، من دون أن يقيم أي اعتبار لحساسيات المجموعات التي يعيش معها والتي تشكل بالحد الأدنى من القواعد الشعبية أكثر من خمسين في المئة من الشعب اللبناني، فضلاً عن استقوائه غير المسبوق بفائض القوة المسلحة التي يمتلكها، كما لو أنه دولة قائمة في ذاتها، ليس فيها رئيس للجمهورية ولا حكومة مسؤولة عن إدارة شؤونها، ولا مجلس نيابي معني بقرارات الحرب والسلم، ولا مؤسسات عسكرية وأمنية أعطاها الدستور الحق الحصري في أمور الدفاع الوطني، ولا وثيقة وفاق وطني جرى إقرارها في الطائف، ولا مؤتمر حوار وطني أنجز برئاسة رأس البلاد، المبادئ المعروفة لإعلان بعبدا». واعتبر أن «حزب الله أطاح كل ذلك دفعة واحدة، وقرر بلسان أمينه العام أن يكون السيد حسن نصرالله رأس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة، والسلطة التنفيذية التي تجيز فتح الحدود أمام آلاف المقاتلين للمشاركة في الحرب السورية، وكذلك السلطة التشريعية التي تصدر فتاوى الدفاع عن المقامات الدينية وأنظمة المقاومة والممانعة خارج الحدود. هذا الكلام ليس وصفاً كاريكاتورياً للواقع السياسي في لبنان، بل هو حقيقة صارخة وجارحة لواقع الدولة اللبنانية التي ترزح منذ سنوات تحت وطأة الشروط وأعمال الترهيب التي يفرضها حزب الله، متخندقاً في ترسانة مذهبية وعسكرية ومالية، نجحت على مدى أكثر من عشرين سنة في استقطاب الطائفة الشيعية وإغراقها بوهم القوة على الآخرين، لتكون رديفاً مسلحاً للحرس الثوري الإيراني على الساحة اللبنانية، ورأس حربة في مشروع مشرقي يشمل الكثير من دول المنطقة ويتم الترويج له بقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية». وقال الحريري: «هذا المشروع يطلب من الشيعة في لبنان أن يكونوا وقوداً في حرب عبثية لا نهاية لها، ويريد للبنان أن يتحول إلى ساحة من ساحات الدفاع عن نظام بشار الأسد مع ما يترتب على ذلك من خطوط تماس لن تقتصر على حدود الطوائف في لبنان، خصوصاً إذا رصدنا الأبعاد الاستراتيجية للمشروع الإيراني في المشرق العربي، والإشارات التي يتم إرسالها حول الموقع المتقدم لحزب الله في هذا المشروع وتكليفه مهمات تؤسس لرسم خرائط جديدة، في نطاق جغرافية سياسية تشمل العراق والأردن إضافة إلى لبنان وسورية، وما نؤكده جازمين أنها مهمات لا تفوق قدرة الطائفة الشيعية على تحملها فحسب بل تفوق قدرات الدولة وطوائفها مجتمعة». وقال: «أعلم أن هناك، مع الأسف، من يريد في لبنان أن يقفز فوق هذه الحقيقة، وأن يتعامل مع الأمر الواقع المذهبي والأمني والعسكري الذي فرضه حزب الله، باعتباره واقعاً سياسياً لا مرد له، وأعلم أيضاً أن هذا الكلام لن يلقى صدى إيجابياً عند فئة غير قليلة من اللبنانيين، لا سيما عند أكثرية أبناء الطائفة الشيعية التي ندرك سلفاً أنه سيكون في مقدور حزب الله أن يحشدها في أي اتجاه يريد... وهنا، يكمن جوهر المشكلة. هنا، يكمن اطمئنان حزب الله إلى أن مشروعه يرتكز على قوة الولاء في الطائفة الشيعية، وكذلك إلى قوة التردد أو الصمت أو الخوف أو العجز والاستنكاف والتسليم للأقدار التي تطاول جزءاً من الرأي العام اللبناني ومواقع عدة في الوسطين السياسي والرسمي، ما زالت تقارب هذه المسألة المصيرية بالطرق والمواقف التي تتجنب إزعاج حزب الله، وتفسح أمامه المجال نحو المزيد من سياسات الاستقواء وترسيخ نهجه في نفي الدولة والخروج على قواعد المشاركة الوطنية، بحيث بتنا كمن يراد منه يومياً أن يدفن رأسه في الرمال ليغض النظر عن ممارسات حزب الله، حتى لو وصلت هذه الممارسات إلى حدود نقل الحريق من سورية وإشعاله في بيوت اللبنانيين». وشدد على «أن الركون إلى مشروع حزب الله في هذا الشكل يعني بكل بساطة، أنه لن تقوم أي قائمة للدولة اللبنانية في يوم من الأيام. وأن هذه الدولة ستبقى رهينة الحزب ومن فوقه الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإلى أبد الآبدين». وقال: «سبق أن حذرنا من أخطار هيمنة السلاح غير الشرعي على مقاليد الحكم والسلطة، وأكدنا أن التهرب من معالجة سلاح حزب الله، ومنع كل سلاح آخر غير شرعي، سيقودان لبنان إلى الخراب ويعيدان إنتاج ميليشيات مسلحة، إما بحجة التوازن الطائفي في اقتناء السلاح وإما بحجة حق الدفاع عن النفس وعجز الدولة عن حماية أبنائها. وها نحن اليوم، دولة وشعباً ومؤسسات وجيشاً واقتصاداً واستقراراً وطنياً، ندفع ثمن الهروب من وضع سلاح حزب الله حيث يجب أن يكون، أي في عهدة الدولة التي لن يكون هناك أي أمل في قيامها من دون أن تحصل على حقها الحصري في امتلاك السلاح واستخدامه». وتابع: «حزب الله يحاول أن يقنع جمهور الطائفة الشيعية بأن هذا السلاح هو لحماية الطائفة، وأن الحزب نجح في تأسيس أول جيش من نوعه للشيعة في الشرق، بدليل المهمات العسكرية التي يقوم بها في سورية هذه الأيام، وبدليل أن إيران كدولة مسؤولة عن حماية الشيعة في العالم، توفر للحزب كل أشكال الدعم المالي والعسكري، ويكفيه من لبنان ودولته بعد ذلك حكومة توفر الغطاء السياسي ومؤسسات أمنية مطيعة. قد لا نستطيع إقناع الجمهور الواسع من الإخوة الشيعة في لبنان بخلاف ذلك، لكننا لا يمكن أن نقر لحزب الله بهذا الحق تحت أي ظرف من الظروف، بمثل ما لا يمكن أن نقر به لأي جهة طائفية أو مذهبية، انطلاقاً من قناعتنا بأن ادعاءات الحزب في هذا الشأن، في أحسن الأحوال أكذوبة تاريخية كبرى أو ضرب من ضروب الغرور والجنون، وفي يقيننا أن في الطائفة الشيعية من الأصوات والطاقات والعقلاء ومن المخزون التاريخي المناهض للظلم والظالمين ما يدحض هذا المسار الخطير والمجنون لحزب الله». وأكد أن حزب الله «بالنسبة إلينا ليس جيش الدفاع عن الشيعة في لبنان، لأنه في هذه الحال يضع الطائفة الشيعية بالجملة في مواجهة كل الطوائف اللبنانية. قد يصلح لأن يكون جيشاً للدفاع عن بشار الأسد أو جيشاً للدفاع عن مصالح إيران وبرنامجها النووي. لكنه بالتأكيد ليس صالحاً للدفاع عن لبنان بعد اليوم، أو للدفاع عن الشيعة وأمنهم واستقرارهم ومصالحم في لبنان والعالم العربي وكل العالم. كل التجارب التي خاضها اللبنانيون مع حزب الله تقول إن الحزب يضع دائماً مصلحته فوق مصلحة الدولة، ومصلحة النظام السوري فوق مصلحة لبنان، ومصلحة إيران فوق كل المصالح... بما في ذلك مصلحة الطائفة الشيعية نفسها. والحزب بهذه المعاني تمكن من استدراج لبنان والمجموعات اللبنانية كافة إلى طريق مسدود، يجعل من الحوار الوطني مسألة قيد التعطيل الدائم ورهينة مشروع سياسي - عسكري، سيكون من الصعب تفكيكه في غياب إرادة وطنية لا تكون الطائفة الشيعية شريكاً فيها». المواجهة بكل اشكال التضامن وأضاف الحريري أن «حزب الله يقول لعموم اللبنانيين بمن فيهم الشيعة، إنكم لن ترتاحوا معي ولن ترتاحوا من دوني مهما أبدعتم من مخارج للهروب من سطوة السلاح، ولبنان سيبقى رهينة ما يتخذه مجلس شورى الحزب من قرارات، ولن تكون هناك دولة في غياب سلاح الحزب، ولا حكومة في غياب معادلة الجيش والشعب والمقاومة، ولا حوار يقول بإعلان بعبدا، ولا سلام وطني في غياب الأمان لنظام بشار الأسد. هذه هي الصورة التي يرسمها الحزب، والصورة مأسوية، مرسومة أيضاً بقلق اللبنانيين والمخاوف التي نشرها «حزب الله» في الحياة الوطنية. لكنها مع الأسف صورة حقيقية لن نشارك في إخفائها أو التخفيف من بشاعتها، لأن أية تداعيات لهذه الحقيقة لن تكون أسوأ من المسار الأسود الذي يقود حزب الله البلاد إليه. إن أقل ما يمكن أن يقال في المشروع الذي يأخذ حزب الله لبنان إليه، إنه مشروع تدميري لن تنجو منه صيغة العيش المشترك والنظام الديموقراطي ووحدة الطوائف الإسلامية. ولن يكون هناك شيء أولى بالمتابعة والاعتراض والمواجهة، من الاعتراض على هذا المشروع ومواجهته بكل أشكال التضامن الوطني». ونبه إلى أن الحزب «أفسد الحياة الوطنية والعلاقات الأخوية بين اللبنانيين بما فيها العلاقات بين السنّة والشيعة، وأفسد العلاقات بين لبنان والدول العربية وكشف مصالح اللبنانيين على ارتدادات اقتصادية ومالية وسياسية، وأفسد علاقات لبنان مع المجتمع الدولي الذي لا تخلو أخباره يومياً من ذكر الحزب وأنشطته غير القانونية والإرهابية في غير مكان من العالم». وقال: «من المفترض في مثل هذه الأيام أن ينصب اهتمام اللبنانيين على إجراء الانتخابات النيابية، وأن تكون المناطق اللبنانية ساحات مفتوحة أمام جميع المرشحين، يمارسون حقوقهم في التواصل مع الناخبين، بعيداً عن إرهاب السلاح وضغوط أصحاب النفوذ، كما كان من المفترض أن أكون شخصياً في عداد الناشطين لإجراء الانتخابات وترسيخ قواعد تداول السلطة في نظامنا الديموقراطي والمشاركة في حملات تيار المستقبل ومرشحيه في بيروت وطرابلس وعكار والمنية والضنية وصيدا وإقليم الخروب والبقاع الغربي والبقاع الأوسط، وفي كل دائرة لنا فيها صوت ندلي به لمشروع الدولة وحماية دستورها ومؤسساتها والعيش المشترك بين أبنائها، ولكن أين نحن في الحقيقة من ذلك كله، وهناك من يعمل على وضع لبنان في قلب العاصفة، ويجعل من الانتخابات عملية متصدعة ديموقراطياً، تحصل بشروطه تحت هيمنة السلاح أو تتأجل بشروطه أيضاً بداعي القتال خارج الحدود». وشدد على أن «وطننا يحتاج، أكثر ما يحتاج، في هذه المرحلة إلى كلمة حق في وجه سلاح ظالم، توقف المسلسل الإيراني وحروبه بدماء اللبنانيين على أرضنا وأراضي الآخرين في سورية وغيرها. وستبقى كلمة الحق هذه سبيلنا لتحرير لبنان من السلاح غير الشرعي ومن هيمنة الأحزاب المسلحة مهما امتلكت من صواريخ، لأنها لن تمتلك في نهاية المطاف، القدرة على العبور إلى الفتنة أو إلى كسر وحدة الدولة وكرامة اللبنانيين».