قرية سورية سكانها ألف نسمة، بينهم أربعة معتقلين سياسيين سابقين، مات أحدهم فور مغادرته السجن... قرية فيها مدرسة ابتدائية وحلقة حزبية تضخّمت ثم ماتت مع خيبات مواسم القمح والزيتون العاقر. لن ينجو أحد هناك، أظنّ... أربعة من أهالي القرية يملكون بنادق صيد لزفّات العرس، وواحد يملك «كلاشنيكوف» يتباهى به أمام الصبايا. ذاكرتي حبلى برفوف سنونو تطير منخفضة شرق «المكسر»، وزغب أفراخ الحمام الأصفر يعلو بيوت الطين. كان سبت كل أسبوع «سبت الخبز»: تأتي شاحنة تحمل أكداس الخبز البائس للقرية فنقوم بتموين الخبز. ليلة الجمعة لا يبقى من مؤونة الأسبوع إلا القليل اليابس المتعفن. كنّا ننتظر الأغنام الآتية من «جبل دويعر» بعد الغروب فنبلّل الخبز بالحليب والسكر ونأكل. شمال طريق الزفت، كنّا نلفُّ أكياس خبز حول حجر صغير، نكورها ونرصّها لتغدو كرة قدم، نصنع مرمىً بحجرين، وتَعلَقُ أشواكُ الديس بأكعاب أقدامنا فنعود لأمهاتنا كي ينزعن الشوك بملقط الحاجب. المرة الأولى التي سمعت فيها فعل «ينزح» في حياتي كانت في القرية. جفّت البئر في دار عمي، «نزح البئر» ونزح معه أولاد عمومتي إلى الشام. (كان ذلك عندما دخل صدام بقواته الكويت). جف حلق الأرض بسبب الملح. لم تعرف القرية ما حل هناك في العراق إلا بعد عام. أًُفرغ صفٌّ من طلابه في المدرسة الابتدائية، وأعيد طلاء الصف ليصير غرفة الفرقة الحزبية. تفرّغ أحدهم لإدارة شؤون الحزبيين لقاء مبلغ زهيد. لم يحضر رئيس الحلقة ولا أمينها ولا حضر البعثيون الاجتماعات الأسبوعية. ما من أحد هناك كان يهتم إلا لخيبة قمح تقتله الشمس. سَرَت في منتصف التسعينات شائعة أن الأرض شرق قريتنا طيبة للزيتون وأن قطعة أرض نسميها «ربع تركي» تنتج زيتاً يفوق التصور. استدان كل سكان القرية قروضاً من الحكومة لزرع الزيتون. كانت الشمس تلفح الزهر ويسقط. لا مطر. فقط ريق الوريقات الدائمة الخضرة. عاد السكان فاستدانوا لري زيتونهم بمشاريع التنقيط. لم يفلحوا. كان الصخر قريباً من الجذور، قاتلاً. لم تعد الفرقة الحزبية تجتمع. مسؤول الحلقة مات ولم يخلفه أحد. خطف أحد شباب القرية صبية أحبها تسع سنوات بعد أن رفض أهلها تزويجها إياه لكونه من عشيرة تختلف عن عشيرتهم. كانت قصة حب قليلة التفاصيل استمتعت بتتبع فصلها الأخير. انقسمت القرية ولم يقرب العريس عروسه ظناً منه أن ذلك شهامة. اجتمع المشايخ وأهل العشيقين، وقيل للشاب ان عليه إعادة العروس إلى أهلها. قال «لا قوة في الأرض تجعلني أعيدها إلى أهلها. إلا إذا هي نطقت أنها لا تريد الزواج بي». قالت «أهلي قبلك». لا ماء هناك ولا عرق أخضر. الأرض مالحة. حتى حواكير البيوت تموت. أذكر إطاراً يحوي صوراً صغيرة لي ولأخوتي ولأبناء عمومتي وأولادهم، محشورة كلها في برواز قديم. (برواز جاء مع صورة التقطت في السبعينات لصبيتين من بنات عمي على ما أظن، ذهبتا إلى حمص وعادتا فرحتين بالصورة وإطارها الخشب.) وحده الذباب يغطّي بلور الصورة، بقاياه نقط سوداء... حتى ظننت أن لي شامات في جبهتي. أذكر القرية؟ جفّفوا سهل الغاب، وبنوا السدود، ودشّنوا طريق زفتٍ... في صيفٍ واحد فسّخته الشمس.