حظ «خطة جنيف» التي أقرت في حزيران (يونيو) الماضي سيكون أفضل حالاً من المؤتمر الدولي الذي توافقت عليه واشنطنوموسكو أخيراً. فالمؤتمر قد يولد ميتاً إذا رأى النور. ويرجح أن تدفن الخطة معه هذه المرة. في الأصل لم يكن متوقعاً أن تتوافق واشنطنوموسكو على انعقاده بهذه السرعة بعد كل هذا الجمود والمماطلة والمناورة التي حالت دون تنفيذ ما تم التوافق عليه في «جنيف 1». لم تكونا مستعجلتين على رغم كل ما تشهده الحرب السورية من مآس وويلات ومجازر ومذابح وتهجير وتدمير. بل بدت الإدارة الأميركية أول من بادر إليه، لتصيب بذلك أكثر من هدف. أولها إعفاء الرئيس باراك أوباما من اتخاذ قرار مفصلي من الأزمة السورية، بعد كل الضجة التي أثيرت عن تجاوز نظام الرئيس بشار الأسد «الخط الأحمر» باستخدام محدود للسلاح الكيماوي. وثانيها تخفيف الضغوط التي بدأت تمارسها قوى في الداخل الأميركي والخارج من أجل التدخل وتوفير السلاح الفاعل لمجموعات معارضة. لكن «تهافت» الإدارة الأميركية إلى «جنيف 2»، مع ما رافقه من حديث عن تنازلات قدمتها إلى روسيا، ليس وحده الدافع. بل إن تلقف موسكو الفكرة نم عن رغبة مشتركة أميركية - روسية في كسب مزيد من الوقت. كأن الحوار الدائر بين الطرفين في كثير من الملفات لم ينضج بعد ويتطلب مزيداً من الوقت. لكن الملف السوري المتفجر شهد أخيراً تطورات أنذرت بتغيير قواعد اللعبة المستمرة من سنتين. وشكلت دوافع لتحرك سريع من أجل إعادة ترميم بعض «الخطوط الحمر» التي تجاوزها المتصارعون في الداخل واللاعبون الإقليميون. بين هذه الدوافع التي تقلق واشنطنوموسكو، إضافة إلى الملف الكيماوي وخطر تكرار استخدامه واحتمال انتقاله إلى مجموعات متطرفة إذا صح ما قيل عن استخدامه على أيدي مجموعات مسلحة، هذا الصعود والانتشار المتناميان لحركات التطرف وعلى رأسها «جبهة النصرة». وإطلاق عمليات التطهير المذهبي في مناطق عدة وما تستتبعه من مذابح ومجازر وجرائم حرب أخطرها ما يجري في القصير وحمص. وما تستدعيه عاجلاً أم آجلاً من مذابح مماثلة في أماكن أخرى من البلاد لن توفر أقليات ومكونات يدعي دعاة الحل السياسي أنهم حريصون عليها حرصهم على عدم تفكك سورية وتشظيها و «صوملتها». وما تستولده من وقود جديد لتسعير الصراع المذهبي في الإقليم. ولعل أخطر الدوافع انخراط إسرائيل ميدانياً في الحرب عبر سلسلة من الغارات استهدفت ليس مواقع سورية فحسب بقدر ما استهدفت مستلزمات انخراط إيران و «حزب الله» عديداً وعتاداً من صورايخ وأسلحة متطورة. ولم يقف هذا الانخراط عند هذه الحدود: أعلنت طهران أنها ستشكل «حزب الله» السوري بعد إعلان دمشق فتح جبهة الجولان أمام المقاومة. ورحب الحزب اللبناني مبدياً الاستعداد لكل أشكال الدعم لهذه الجبهة. كأن هذه الدوافع لم تكن تكفي وحدها للتحرك نحو مؤتمر يعيد رسم قواعد جديدة للعبة، حتى زج العراق بنفسه في الحرب. لم تكن بوادرها الأولى أزمته السياسية التي يرقص أطرافها على وقع ما يجري خلف الحدود الجنوبية. ولن يكون آخرها انضمام قوى وميليشات إلى ساحات المتقاتلين في دمشق وغيرها من المدن، أو قصف القوات العراقية لمعبر اليعربية الحدودي الذي يمسك «الجيش السوري الحر» بمفاتيحه. ولعل آخر التطورات - الدوافع هذه التفجيرات الأخيرة التي ضربت بلدة الريحانية التركية، وهزت أنقرة و... إسطنبول. ودفعت وزير الخارجية أحمد داود أوغلو إلى التحذير من «اختبار قدرة» بلاده. وسواء كان هذا الطارئ جزءاً من الصراع في شأن القضية الكردية أو من تداعيات ما تشهده الساحة السورية، فإن الارتباط بينهما يرقى إلى تاريخ طويل، طول إقامة عبدالله أوجلان في الربوع السورية أو البقاعية أيام الوجود السوري في لبنان. وإذا ثبت دور الاستخبارات السورية في التفجيرات كما ورد في التحقيقات الأولية، ستجد حكومة رجب طيب أردوغان نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في القواعد التي حكمت سياستها حيال سورية... وأولها الخروج من موقع الخطابة والتهديدات الفارغة إلى التحرك الحازم للحؤول دون انتقال المشهد السوري إلى أراضيها، في ضوء اعتراض شريحة من مواطنيها على مخيمات اللاجئين السوريين واااااااااااااما تقدمه الحكومة من مساعدات وتسهيلات إلى تشكيلات المعارضة. أمام هذا الحضور الإقليمي الفاعل في الحرب السورية مضافاً إلى هذه المجموعات المتعددة المشارب والبرامج التي تقاتل النظام، لم يعد الخطر يتهدد سورية الدولة والمؤسسات والمكونات، بل بات يهدد أيضاً مصالح اللاعبين الدوليين ودورهم في رسم مستقبل هذا البلد. لذلك استعجلت الولاياتالمتحدةوروسيا الدعوة إلى مؤتمر دولي لإعادة إحياء بنود «خطة جنيف» التي أقرتها الدول الكبرى والجامعة العربية وتركيا قبل نحو عام. وأعيد بعث مهمة الأخضر الإبراهيمي التي لم تقدم ولم تؤخر في ما فعلته مهمة سلفه كوفي أنان حتى يوم استقالته. بالتأكيد ترغب الدولتان الكبيرتان في أن يكون لهما الدور الأساس في إدارة أزمة سورية وفي إيجاد تسوية سياسية لها مطابقة لصورة المستقبل الذي تريدانه لهذا البلد، من أجل ضمان مصالحهما فيه وفي بلاد الشام عامة. لكن رغبة الدولتين الكبيرتين شيء وقدرتهما على تحقيق هذه الرغبة شيء آخر. ولو كانت أيديهما مطلقة في هذا المجال لانتفت الحاجة إلى مؤتمر دولي. كان يكفيهما التفاهم الثنائي لفرض التسوية التي تريدان. الواقع يشي بخلاف ذلك تماماً. فقبل الحديث عن الدور الأساس للقوى السورية المتصارعة والدور المتعاظم للقوى الإقليمية، يكفي النظر إلى تخبط كل من الأميركيين والروس في مواقفهم غداة الاتفاق على المؤتمر الدولي حيال رؤيتهم للحكومة الانتقالية، ودور الرئيس الأسد في المرحلة الانتقالية، ولائحة الدول والقوى المدعوة إلى «جنيف 2»، ودور الجيش والمؤسسات الأمنية ومستقبلها... رغبة الدولتين الكبيرتين شيء والواقع على الأرض السورية شيء آخر: لا ضمان في قدرة الروس على اقناع الرئيس الأسد والحلقة المحيطة به على البقاء بعيداً من الحكومة الانتقالية لئلا نقول إنهم لا يرغبون في ذلك. ولا قدرة لهم على إقناعه بالتنحي ولا رغبة مبدئية لديهم في مثل هذا النهج الذي يتيح تدخلاً خارجياً في تدخل يصرون على أن يكون من اختصاص أهل البلاد. في المقابل لا قدرة للأميركيين على دفع المعارضة إلى الحوار مع النظام. علماً انهم قد لا يجدون سوى قلة تصغي إليهم أو تثق بهم. فهم وضعوا «جبهة النصرة» على لائحة المنظمات الإرهابية. ويماطلون ويناورون من سنتين لكسر رجحان كفة «الإخوان المسلمين» في تشكيلات المعارضة، من «المجلس الوطني» إلى الائتلاف القائم. وعارضوا ويعارضون مد «الجيش الحر» أو من يسمونهم «المجموعات المعارضة» بما يحتاجون إليه من سلاح لمواجهة آلة النظام وترساناته الأرضية والجوية والبحرية. لذلك علت أصوات المعارضين المطالبين بوجوب تغيير موازين القوى قبل أي جلوس على الطاولة للتفاوض. وما لم يتحقق ذلك فإن الضغط على الائتلاف للقبول بالحوار وشروطه الأميركية قبل الروسية سيفضي إلى تمزيق ما بقي من هذا الهيكل التنظيمي ويفاقم آلام المعارضة التي باتت تشعر بأن ثمة «مؤامرة كونية» عليها، وليس على النظام كما يدعي، تحول دون تحقيقها التغيير الذي تنشد! إضافة إلى تشتت المعارضة وحدود الضغط الذي يمكن أن يمارسه الروس والأميركيون على «حلفائهما» في سورية، هناك القوى الإقليمية، من إيران إلى إسرائيل، ومن العراق إلى تركيا ولبنان والأردن، والسعودية وقطر ومصر. باتت هذه الدول جزءاً من الحرب القائمة. ولكل واحدة منها أسبابها الخاصة وأهدافها الجوهرية التي لا يمكنها التنازل عنها بيسر وسهولة، أياً كانت ضغوط الكبار. لهذه الدول مصالح استراتيجية وحيوية تتأثر سلباً أو إيجاباً بمستقبل البلاد وهويتها ونظامها المقبلين. ولا يمكن واحدة من هذه القوى أن تصغي بلا نقاش لرغبة أميركية أو روسية. فهل سيسكت الأردن حيال تدفق مزيد من اللاجئين؟ وهل ستكتفي تركيا بالوعيد والتهديد كما فعلت بعد إسقاط طائرتها الحربية قبل نحو سنة أم ستنضم إلى مجموعات الضغط على الرئيس أوباما لتسليح المعارضة أوإقامة ملاذات أمنة لها؟ وهل ترضى إيران بنهاية نظام قد ينتهي معه كل ما بنته في العقود الثلاثة على شاطئ المتوسط وحدود إسرائيل؟ وهل تقبل الدولة العبرية بمرابطة «القاعدة» في الجولان أو تسليح نظام الأسد بترسانة من الأسلحة الاستراتيجية؟ وهل يقبل «حزب الله» بالمجازفة بكل ما حقق من مكاسب في لبنان سياسياً وعسكرياً؟ وهل تقف حكومة نوري المالكي موقف المتفرج على صعود السنة في سورية وما يحفزه في الساحة السنّية في العراق؟ حيال هذه الخريطة المعقدة والأسئلة المصيرية يكاد يكون مستحيلاً أن يوفق المؤتمر الدولي في دفع «خطة جنيف» إلى حيز التنفيذ. لو كان الأمر بهذه السهولة لما بقيت الخطة في أدراج الأممالمتحدة. إن الصراع الإقليمي والدولي على سورية كان وراء انسداد الأفق أمام الحسم العسكري لمصلحة النظام أو خصومه، وكان وراء جمود أي مسعى لتسوية سياسية يبدو أن أوانها قد فات. فهل تنجح الضغوط على الرئيس أوباما، قبل مؤتمر جنيف أو بعده لا فرق، فيغير «قواعد اللعبة» كما توعد، بعدما تجاوز الجميع الخطوط الحمر؟