تبدأ المؤتمرات العلمية، بعد الكلمات الافتتاحية، بالمحاضرات وتنتهي بالتوصيات التي تناشد الجهات التنفيذية الأخذ بالجهود المبذولة على الورق إلى حيز الواقع، لكن الصداقات والذكريات بين البشر تبقى وحدها نابضة حية تلهم المشاركين والمشاركات صلات أبعد وأفكاراً أعمق من المعلومات والتوصيات. في مؤتمر نظمته أخيراً في مرسى مطروح الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، تعلمت الكثير عن ديموغرافيا الحدود ودور النساء في المجتمعات النائية عن المركز. تعلمت أن المركز والهامش يشتركان في الكثير وأن مشاكل التهميش مصطنعة تنبع من تصور البشر عموماً أن الحياة تحدث في المركز على نحو أكثر حيوية، وأن ذلك التصور واحد وإن تعددت مستوياته لأننا لم نتخلص بعد من الاطمئنان لإيرارشية صنعناها بأن «التقدم» يفرق بشراً عن بشر، ونقيس ذلك التقدم «المادي» المحض وفقاًَ لمعايير أنستنا مدى تشابهنا الأصيل وحاجاتنا الواحدة التي تنبع من ظرفنا الإنساني الواحد. في مرسى مطروح قابلت نماذج من البشر مفعمة بالحياة وأصالة المبدأ ونصاعة النية، لكنها تتعامل مع نفسها وكأن تمكينها من تفعيل دورها في مجتمعها المحلي معقود على «رؤية» المركز لها و»سماعه» طرحها ورؤيتها. وتعجبّت مبدئياً، ثم تأملت مركزاً وهامشاً على مستوى آخر: كيف يؤطر المثقف، رجلاً كان أم امرأة، عندما تترجم كتاباته إلى لغة المركز على مستوى العالم. وهكذا آليت على نفسي عندما أعود إلى القاهرة أن أحمل معي سفارة ملخصها ثلاثة نماذج مبهرة من البشر ليست في حاجة إلى اعتراف من المركز بقدر ما يحتاج المركز إلى استلهام روحها الوثابة ونصاعة صدقها وتأمل ما يعوّق العمل الجماعي بين كل من يود التوصل إلى حلول ترتكز على ثقافة حقوقية في ظل إشكاليات توجه «الخصوصية الثقافية» في عالم اليوم وفي ظل ضغوط تبدأ بالعولمة، لا تنتهي بمأزق مفهوم «الهوية» الذي يمر به العالم بأسره اليوم، كلّ وفقاً لظروفه: الدكتورة سليمة: هي بدوية حتى الوشم على الجبهة والذقن في خريف العمر الأول. عندما ذهبت إلى المدرسة لم يكن ذلك مسموحاً للبنات في قبيلتها، لكنها نجحت وأصرت فكان أن أرسلها أبوها إلى المدرسة الإعدادية. تململت القبيلة وأبدت الضيق الواجب، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد نجحت سليمة بامتياز في اجتياز المرحلة الإعدادية والتحقت بالمدرسة الثانوية، وكان على «عقّال» القبيلة ثني أبيها عن هذا التهور. عندما تهور الرجل بالفعل وبعث بابنته إلى الجامعة توجب أن تأخذ منه القبيلة موقفاً حاسماً فتبرأت منه شفاهة، ولكن عندما جاءت سليمة بالشهادة الجامعية في علم الاجتماع مصحوبة بمنحة للدراسات العليا في أميركا كان واجب «العقّال» التبرؤ من العائلة المارقة كتابة، وهي أقصى عقوبة تنزل على أحد في البادية. عندما حادثتها ابتسمت في إشفاق وهي تتذكر «العفو» الذي تمثل في تمزيق ورقة «التبرؤ» بيد الشيخ الذي كان قد أمر بها قبل سنين طويلة. وكان تفسيرها أنها اكتسبت ثقة العشيرة لأنها لم تسمح لنفسها بالتعامل مع الرجال ولذا كان فخر عائلتها عندما قال «العقّال»: بنت بمئة رجل! الأستاذة جمالات عبدالرؤوف: موظفة في محافظة مطروح منقبة. جلست في قاعة المحاضرات المكيفة في هدوء، ولزمت الصمت طوال المحاضرة التي كانت عن «استراتيجيات التنمية ودورات الزراعة» ومن ثم عن «نسب البطالة والمساحات المأهولة وكيفية تحقيق العدالة في توزيع التنمية جغرافياً». صبرت الأستاذة جمالات صبراً جميلاً ثم صعدت النصة في تؤدة وسألت ببساطة: وما الحل؟ بكلمة واحدة بصوتها الهادئ فتحت جمالات عبدالرؤوف الفجوة التي تفصل بين النظرية والتطبيق، وأسكتتنا جميعاً. وجدتني أقول لنفسي: الحل لا يمكن أن يكون واحداً. كل موقف وكل موقع يقتضي حلاً مختلفاً. ولكن، كل الحلول يجب أن تنبع من مكان صاف خالص لوجه الله ممن يعانون في مواقع بعينها مشكلات بعينها في زمن بعينه، فلا ينتظرون أن يأتيهم حل أو حلول من خارجهم. وهكذا فالحل هنا هو كيفية إقناع الأستاذة جمالات وغيرها أن بأيديهن أن يجدن الحلول المناسبة وأن يستخدمن ما يستطعن الحصول عليه من معلومات يوفرها المنظرون المتخصصون. كيف نزرع الثقة في النفس التي يتطلبها الحل؟ من أين نأتي بالوسائل التي تستبدل انتظار أن يأتي لنا الآخرون بالحل بمنظور المبادرة الشجاعة؟ وكيف تصنع الشجاعة إن لم تكن تصنع في مناخ من التشجيع؟ وتصورت أن مهمتي هي التشجيع، وبالفعل قمت بتنظيم اجتماع صغير ضمني والأستاذة جمالات وزميلة لها اسمها عايدة، وتحدثنا كثيراً ووجدت عندهن وعياً بدورهن وحماسة لتفعيل الدور ووعدنني بالاجتماع بأخريات للخروج بهدف موحد لتحقيقه، ولكن، حين جاء موعد الاتصال كانت التليفونات مغلقة وظلت هكذا رغم جهود الأستاذة منى عزت الأمنية العامة للمؤتمر ذات الخلفية التنموية المتعمقة. كان خيالي القصصي يملي عليّ حكاية تقول إن جمالات وزميلتها عايدة عادتا إلى المنزل وأعدتا تقريراً مفصلاً لجماعتهن عن فاعليات اليوم في مؤتمر «نساء الحدود والتهميش» ووصلتا إلى نتيجة واضحة مفادها بأن لا أمل بالقاهريات السافرات لأنهن يمثلن خطراً حقيقياً ولأن لديهن قدرة فائقة على حديث شديد الشبه من منطلقاته برؤية العالم التي تنحاز إليها المنتقبات، من حيث أهمية دور الأم في الأسرة وقدرتها على تنمية موارد تلك الأسرة بجهودها التي تبذلها من أجل مجتمع أكثر رخاء، وكان ذلك هو لب موضوع المحاضرة التي انتهت بالسؤال المعضلة: ما الحل؟ ... ورجل: شاب تنطق عيناه بذكاء غير عادي وينفطر قلبه لرؤية ضحايا الألغام التي نسيها من حاربوا في العلمين. عندما وصل للقاء عقدته المحافظة للاحتفاء بضحايا الألغام نضح صوته بالألم وهو يقول لي: لم يكن هناك من ضحايا الألغام سوى واحد، وحتى هذا كان موجوداً بالصدفة. هناك 724 ضحية للألغام حتى اليوم في مرسى مطروح، لكن المستفيدين من التعويضات الهزيلة التي تصرف في الأعياد هم 560 فقط ذلك، لأن الباقين لا يحملون الأوراق الثبوتية اللازمة التي ترضى البيروقراطية. يوجد 31 ألف لغم في منطقة و26 ألفاً في منطقة أخرى وتكلف إزالة اللغم الواحد ما بين 300 وألف دولار. أما تفجيره فيكلف ما بين عشرة وثلاثين دولاراً للغم الواحد. هناك جمعية للناجين من الألغام ربما استقت اسمها من الجمعية التي أسسها جيري وايت الأميركي الحائز جائزة نوبل، لكن الجمعية بلا مقر! في طريق العودة إلى القاهرة طلبنا من الشاب المطروحي الوقوف في العلمين لزيارة مقابر الحلفاء، وتفقدنا شهود القبور التي حملت أعمار الصغار الذين يلقي بهم القادة الكبار إلى الحرب، ولدهشتي وقف عماد عبد الحليم صالح أمام أحدها وراح يقرأ الفاتحة ومن خلفه يافطتان إحداهما بالعربية والأخرى بالإنكليزية: هذه الأرض هدية من شعب مصر لمن ماتوا هنا. وكأن لسان حال عماد يقول: أنا أقرأ الفاتحة على الموتى ممن أمرهم قادتهم بزرع الألغام، فمن يقرأ صلاة رحمة أو يمد يد العون إلى من يفقدون أرواحهم حتى اليوم على هذه الأرض بسبب حرب تصالح أطرافها حتى اتحدوا في كيان عملاق واحد؟ لم يكن هذا ما قيل في قاعات قصر ثقافة مرسى مطروح ولا في أروقة مركز الأعلام النموذجي، لكنه قيل لأن أولئك الذين تحدثت عنهم قالوه صراحة وتضميناً: العلاقة بين «الخصوصية الثقافية» والحقوق تتقاطع مع العادات المتوارثة من دون تمحيص وباستسهال الركون إلى حلول دنيوية كانت صائبة في الماضي لكنها أصبحت لا تفي بأغراضها في صناعة المستقبل الذي نتمناه جميعاً. الحس بالأفضلية الأخلاقية يسهل في ظل فرض ظرف التقوقع على الذات وإقصاء الآخرين. وفي سياق متصل منفصل مع ذلك الشاب المطروحي الذكي الفؤاد: من حقنا على من حاربوا على أرضنا واحترمنا موتاهم أن يزيلوا عنا بقايا هذه الحرب التي لم تنته بعد بالنسبة إلينا. فهل من مجيب؟ * كاتبة مصرية