اتفق الأميركيون والروس على إحياء اتفاق جنيف والعمل نحو جنيف – 2 بعدما أُدخِلَت تعديلات على موازين القوى العسكرية على الأرض في سورية، وبعدما دخلت إيران وإسرائيل لاعباً مباشراً في الحرب الدائرة على الساحة السورية. بقي الرعب الكيماوي في الحسابات الأميركية والروسية، أولاً خشية سقوط هذه الأسلحة الفتاكة في أيدي المعارضة المسلحة، وثانياً خوفاً من ان يؤدي أي استخدام للنظام لهذه الأسلحة الى تغيير «قواعد اللعبة». استقل الحل السياسي مرحلياً العربة الأولى في القطار الذي يسير على السكتين – سكة الحل السياسي وسكة الحل العسكري. موسكو حرصت على تلازم الاندفاع الروسي الى تفاهم مع الولاياتالمتحدة سياسياً مع الاعتزام الروسي على المضي في دعم النظام في دمشق عسكرياً بأسلحة نوعية وطائرات هدفها تغيير قواعد اللعبة العسكرية. واشنطن عادت الى رقصة الخطوة الى الأمام والأخرى الى الوراء في لف ودوران حول جنيف – 2 وكيفية القفز على عقدة الأسد، أي كيفية التعامل مع الرئيس السوري في مرحلة المفاوضات على نقل صلاحياته الى حكومة انتقالية ذات صلاحيات كاملة. أيبقى الأسد في السلطة حتى انتهاء ولايته بعد مرور سنتين على جنيف – 1 كما تريد موسكووطهران؟ أيتنحى الأسد بتفاهم أميركي – روسي يغادر السلطة على أساسه إنما يترك وراءه النظام بحلّة جديدة؟ وأين هي إيران في هذه التفاهمات على اليوم التالي في سورية – إذا كانت حقاً مستعدة للموافقة على اليوم التالي لسقوط النظام أو لمغادرة الأسد؟ أين هي إسرائيل من ذلك؟ ومَن هي القوى التي ستتسلم سورية في اليوم التالي؟ هي ذي الأسئلة التي بدأت تُطرح مجدداً بعدما اتفق هذا الأسبوع في موسكو وزيرا الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف على العمل نحو التفاهم وعلى عقد مؤتمر دولي حول سورية يسبق اجتماع رئيسيهما في 17 الشهر المقبل. اعلان لافروف ان الطرفين الأميركي والروسي متمسكان بسلامة الأراضي السورية أتى ليحاول إبعاد الشكوك المتزايدة عن «صفقة» تقسيم لسورية. فلقد ازداد الكلام عن موافقة ضمنية للاعبين الدوليين على تقسيم سورية ضمن تقسيم المنطقة العربية على أسس مذهبية وعرقية تتبع تأجيج الحرب السنية – الشيعية المضطرمة في سورية. ولقد عاد مجدداً الكلام الذي رافق الحرب في العراق عن قرار إيراني بإقامة «هلال شيعي» يمتد من ايران الى العراق وسورية الى لبنان. ولذلك خرجت المعركة الإيرانية من أجل سورية الى العلن وجعلت طهران من الحرب السورية حربها. تزامن هذا مع كلام وزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو الذي اعتبر «مجزرة بانياس» بداية «تطهير عرقي». كما تزامن مع كلام غير مؤكد، لكنه تردد بأن الغارات العسكرية الأخيرة على مواقع حيوية داخل سورية قد لا تكون إسرائيلية حصراً وإنما – كما تردد – لتركيا يد فيها وأحد أهدافها الرد على التوعّد الذي أطلقته إيران عبر «حزب الله» بأنها لن تسمح بسقوط النظام في دمشق نظراً لمركزية النظام في الاستراتيجيات الإيرانية. أهم الحلقات في مستقبل التفاهمات الأميركية – الروسية هي الحلقة الإيرانية. روسيا طرف في حلف «الممانعة» الذي يضم إيران و «حزب الله» الى جانب النظام في دمشق وكذلك الصين الى درجة أقل. وروسيا مستمرة في توفير السلاح للنظام فيما دخلت إيران و «حزب الله» طرفاً في المعركة، اما بسلاح أو بتدريب أو بمقاتلين على الأرض. روسيا لن تتمكن من أن تمون على إيران للدرجة التي تحاول الإيحاء بها للولايات المتحدة. هامش «الموْن» الروسي على إيران يتعلق بمدى تحالفهما في معادلة التمسك ببقاء بشار الأسد في السلطة. كلاهما متمسك به الآن، انما مصيره عندهما يعتمد على ما يحصلان عليه في إطار التفاهمات الأوسع أو الصفقات مع الولاياتالمتحدة. كلاهما مصر على إفشال صعود الإسلاميين السنّة الى السلطة في دمشق. وكلاهما يتأهب، انما كل لمصلحته في نهاية المطاف. وأحياناً قد لا تكون المصالح متطابقة، بل ان من الجهل الافتراض ان هناك تلقائية لموافقة إيرانية على تفاهمات أميركية – روسية. ايران تصر على أن تمتلك القرار في مستقبل سورية لكنها قد تتورط في المعركة على سورية لدرجة تحول سورية حقاً الى فيتنام إيران. فالمعادلة العسكرية ليست سهلة وإنما هي مكلفة جداً وإيران غير قادرة على سداد فاتورة حرب سورية من دون روسيا. ذلك ان روسيا هي التي تملك الطائرات الضرورية لقصف المعارضة السورية لتغيير موازين القوى العسكرية على الأرض. فالتداخل بين الدورين الروسي والإيراني في سورية حيوي ومعقد في آن. نفوذ طهران مع النظام في دمشق لا يستهان به، بل ان ايران هي حقاً مفتاح رئيسي لمستقبل سورية. هذه الأيام، لسان حال النظامين في طهرانودمشق هو المقاومة في سورية. الأسد قال: سنتحول الى دولة مقاومة. وهكذا اعترف بأن سورية لم تكن دولة مقاومة حتى الآن وإنما اكتفت باستخدام لبنان حصراً جبهة للمقاومة ضد إسرائيل. هذا التحوّل الاستراتيجي الجذري في مصير المقاومة سيفتح جبهة الجولان للمرة الاولى منذ عام 1973 لتنطلق منها المقاومة بقرار النظامين في إيران وسورية. هذا إذا كانا حقاً صادقين في تعهّدهما وجدّيين في توعّدهما. وهذا مستبعد – أقله حتى الآن. اليوم، هناك فسحة لالتقاء أميركي – روسي بين ال «لا» الروسية للإسلاميين في السلطة وبين ال «لا» الأميركية لاستبعاد الإسلاميين المعتدلين عن السلطة. تجربة مصر فضحت التسلط التلقائي للإسلاميين في السلطة وإصرارهم على الاستفراد بالحكم واحتكار كل مفاصله. تجربة ليبيا عرّت الاندفاع الغربي الى التغيير قبل التفكير. تجربة تونس سلّطت الأضواء على عمق تفكير «الإخوان» ورفضهم فصل الدين عن الدولة في نهاية المطاف. هذه التجارب قضت على ما حُلِمَ به ك «نموذج» تشدّق به الغرب بذريعة احترام الأكثرية في العملية الديموقراطية وذلك بعدما بات واضحاً اكتفاء الإسلاميين في السلطة بالمحطة الانتخابية من العملية الديموقراطية حصراً، لا غير. روسيا مرتاحة للتطور في مسيرة الحكم الإسلامي ووطأته على التفكير الغربي وترى في هذا فرصة لاستعادة التفاهم مع الولاياتالمتحدة وأوروبا بالذات عبر خلق نموذج مختلف في سورية. قد يستفيد المدنيون أو العلمانيون أو الحداثيون في تونس ومصر وليبيا من انحسار التشدق الغربي بالإسلاميين ومن دخول روسيا طرفاً في إضعاف الإسلاميين في السلطة. لكن هذا لن يعفي روسيا من المحاسبة على دورها في سورية ومساندتها العسكرية والديبلوماسية والسياسية للنظام ضد المعارضة. فروسيا ليست لها شعبية عربية بسبب مواقفها من سورية، وهي (روسيا) لن تستعيد نفوذها مع الشعوب العربية لزمن طويل. القيادة الروسية قد تزن مشاعر الشعوب العربية نحوها بمقدار الكراهية التي تكنّها هذه الشعوب نحو السياسة الأميركية في المنطقة والتي تتبنى تفوّق إسرائيل وحمايتها من المحاسبة. لذلك، لن تتوقف القيادة الروسية مطوّلاً أمام هذه الناحية لا سيما انها في خضم إبلاغ جميع المعنيين انها عائدة الى النفوذ في منطقة الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، مهما كلّفها ذلك. فعنوان الأدوار الروسية في المنطقة هو الكبرياء والقومية الوطنية الصارخة وروسيا عازمة على العودة الى المنطقة عبر صفقات أسلحة ضخمة مع العراق واليمن والسودان الى جانب صفقاتها مع سورية. عائدة عبر أساطيل لها في مياه المنطقة وقواعد بحرية لن تتخلى عنها. عائدة عبر تحالفها مع إيران. عائدة عبر اعتزام قاطع على منع تركيا وقطر من كسر شوكة روسيا ونفوذها في أوروبا عبر أدوات الغاز الذي تتميز بامتلاكه عالمياً. فقطر قادرة على التأثير في أسعار الغاز العالمية نظراً لما تمتلكه بدورها من احتياطي ضخم حالياً. انما إذا تم بناء الأنابيب عبر الوصلة السورية – التركية الى أوروبا، فإن مستقبل نفوذ روسيا عبر الغاز سينحسر، وهذا خط أحمر يفسر الكراهية الصارمة من القيادة الروسية للقيادة القطرية. انه أمر مرفوض كلياً في قاموس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. هي ذي الأولويات الروسية الشرق أوسطية على أبواب الصفقات التي يريد بوتين إبرامها مع الرئيس الأميركي باراك أوباما الراغب حالياً في بحث «المصالح المشتركة» مع روسيا انطلاقاً من سورية. انه موسم المقايضات الذي ينطلق مجدداً بهدف إبرام صفقات دولية تأتي للأسف على أشلاء سورية ومحنة إنسانية عارمة. انها بداية أخرى في خطوات وليست ولادة اختراق. فمهلاً قبل القفز الى استنتاجات... ذلك أن المسار العسكري والمسار السياسي ما زالا متلازمين في السباق الدولي والإقليمي والمحلي على السواء.