للغزل أشكال وألوان، منه العفيف ومنه الصريح. ويقولون إن منه الديبلوماسي الذي يهدف إلى تسهيل الأمور وتليين العقول، ومنه أيضاً السياسي الذي قد يكون الغرض منه الإعزاز والتقدير أو تكون غايته الغدر والتنكيل. ولم يحدث من قبل أن ربض المصريون أمام الشاشات في بيوتهم أو مع المذياع في باصاتهم وسياراتهم أو بين خيوط الشبكة العنكبوتية لتدقيق وتحليل وتفنيد نظرة بدرت من القوات المسلحة، أو همسة وردت من الرئاسة، أو دقة زائدة صدرت عن قلب مسؤول كبير، أو لجلجة مريبة جاءت في تصريح وزير، أو كلمة شكر حولت دفتها من وزير إلى رئيس وزراء. محوران مهمان افتتحتهما الرئاسة ممثلة بالرئيس محمد مرسي والقوات المسلحة ممثلة في وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي ليحققا قدراً من سيولة مرورية عزَّت في «عصر النهضة» ويسهلا شيئاً من معاناة يومية يعيشها المصريون على الطرق السريعة والبطيئة. لكن لا السيولة ولا تخفيف المعاناة كانا محور حديث المصريين أمس، بل اهتمت الغالبية بمحور ثالث، وهو محور العلاقة بين الرئاسة -أو بمعنى آخر «الجماعة»- وبين المؤسسة العسكرية. هذا المحور يداعب أحلام الملايين، التي تتمنى أن تتصادم حاراته وتتناقض مصالحه، ما قد يؤدي إلى «نهاية سعيدة» تتلخص في انقلاب الجيش على «الإخوان»، ومن ثم يعيش المصريون من غير الإسلاميين حياة هانئة سعيدة بعيداً من الدولة الدينية وثيوقراطية المرشد وسيطرة الجماعة وهيمنة العشيرة. المحور نفسه ينغص أحلام ملايين أخرى من المصريين من الجماعة ومحبيها ومريديها وحلفائها وأقرانها من الأحزاب الدينية التي تعبر عن مخاوفها بين الحين والآخر، تارة بإطلاق تصريحات نارية حول حمل السلاح في حال انقلب الجيش على الرئيس، وتارة بضربات تحت الحزام، مرة بتسريب معلومات عن خروقات للجيش ومرة بالتلويح بعلاقات مريبة بين بلطجية واستخبارات. لكن الخبر اليقين أمس هو أن طرفي المحور بذلا كل ما في وسعهما لتبادل عبارات الغزل المحسوبة وجمل الإشادة المدروسة والتعليقات العلمية الموائمة للطبيعة الهندسية للمناسبة، فالرئيس مرسي أشاد بقدرات الفريق السيسي الهندسية المتميزة، قائلاً: «يبدو لي أن الفريق أول السيسي بالإضافة إلى تكوينه العسكري المتميز، لديه تكوين هندسي متميز، وقدرات هندسية عسكرية ماهرة». لكن الإشادة لا تعفي من الحذر، فحين يوجه مدير الهيئة الهندسية الشكر إلى السيسي، يعقب الرئيس محولاً دفة الشكر إلى رئيس وزرائه هشام قنديل قائلاً: «لازم نشكر رئيس الوزراء كمان علشان هو اللي بيسهل مهمة المشروع». المهمة بالتأكيد ليست يسيرة، فمحور الفريق سعد الدين الشاذلي أكثر من مجرد طريق يربط الطريق الدائري بطريق القاهرة -الإسماعلية الصحراوي، لكنه محور مفعم بالرسائل. فالفريق الشاذلي كان رئيس أركان حرب القوات المسلحة بين أيار (مايو) 1971 وكانون الأول (ديسمبر) 1973، ويوصف بأنه الرأس المدبر لاقتحام خط بارليف الإسرائيلي في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وهو الذي انتقد قرارات الرئيس الراحل أنور السادات في المرحلة الثانية من الحرب، ما أوقعه في خصومة شديدة مع السادات، وهي الخصومة التي استمرت وأضيف إليها عامل إهانة من قبل الرئيس السابق حسني مبارك الذي سلبه «نجمة سيناء». وتسمية المحور باسمه في عصر «الإخوان» تأتي بعد طول تجاهل عمدي، وتتزامن ورغبة الرئيس الواضحة في أن يكون هناك «عبور ثالث نحو المستقبل» مسجلاً باسمه في التاريخ. وسيسجل التاريخ أيضاً أن الرئيس المنتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين» المعادية للشيوعية حضر بنفسه افتتاح المحور الثاني المسمى باسم رئيس اليوغسلافي الراحل جوزيف تيتو، والملقب ب «الشيوعي الأخير». كثيرون ألمحوا كذلك إلى التقارب الآني غير المتوقع بين الرئيس مرسي ذي الخلفية «الإخوانية» وصاحب العبارة الشهيرة: «وما أدراكم ما الستينات» والرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذي كان حليفاً استراتيجياً لتيتو. ومن استراتيجية تيتو ومحوره، وميل «الإخوان» الحالي إلى كثيرين من الضباط، سواء بتقمص شخصية كناصر أو تكريم آخر كالشاذلي، تابع المصريون بكل الشغف فعاليات افتتاح المحاور ولغة الجسد وعبارات الإشادة الحذرة المتبادلة. ورغم الحذر الشديد والبروتوكول المدروس والدور الذي ينبغي على كل جهة سيادية أن تلعبه من دون تعد على أخرى، إلا أن جلوس مرسي والسيسي متجاورين لم يخفف حدة الحرج في ضوء التوكيلات التي يجمعها بعض معارضي الرئيس لتفويض السيسي بإدارة شؤون البلاد. كما أن التقارب هذا لم يلغ التصريحات المسكوت عنها رئاسياً التي تطلقها جماعات الإسلام السياسي بين آن وآخر عن مواجهة القوات المسلحة في حال الانقلاب على شرعية الرئيس الآتي عبر الصندوق ومن خلفية غير عسكرية للمرة الأولى في تاريخ المصريين الحديث. لكن هذا لا ينفي حرص الرئاسة على حفر اسم مرسي في مناسبات مصر العسكرية، من احتفال «إخواني» ضخم بذكرى حرب تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي حين لوح الرئيس إلى «العبور الثالث»، إلى تزامن افتتاح المحاور و «عيد تحرير سيناء» حيث اللغط الكثير عن سيطرة الجهاديين واختراق حركة «حماس»، إلى أوامر رئاسية للقوات المسلحة بتطوير الجزء الخاص بمدخل القاهرة من الكلية الحربية (شرق القاهرة) «على أن يتم افتتاحه في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل». وبينما ينتظر المصريون «العبور الثالث» لينقلهم من غياهب «عصر النهضة» إلى عصر آخر أقل عنفاً وأكثر أمناً وأوفر اقتصاداً، ويستحضرون كلمات السيسي قبل أيام: «احنا ايدينا تنقطع قبل ما تمسكم» ، يضربون أخماساً في أسداس حول هوية من لا يزال يقتل أبناءهم ويسكت على دماء من راحوا ويتجاهل قتل جنوده في رفح. وإلى أن تلوح إجابات في الأفق، يسعد المصريون بمحور الشاذلي المنسي وتيتو الشيوعي.