- 1 - إذا كان الحِراك العربي الحالي قد انطلق طلباً للحرية ورفضاً للاستبداد، فإنه الآن في طريقه إلى توسيع هذه القضايا لتمسّ هويّات هذه البلدان ومعناها. ولم تعُد المسألة في البلدان العربية، كما تؤكّد الممارسات في هذا الحِراك، مجرّد مسألة أنظمة ومعارضات، حريّة أو استبداد. صارت المسألة أوسع وأعمق: هويّات هذه البلدان، جماعاتٍ وأفراداً، تضطرب، تتغيّر، تغامر في فقدان معناها الأصليّ. كأنّ هناك، في وعي فئات كثيرة من المسلمين، نوعاً من العودة إلى بداية الفتوحات الإسلامية. كأنّ قادة هذه الفئات لا يعرفون الأرض ولا البشر. كأنّهم يهبطون من فضاء فوقيّ. عادةً، يعمل الثوّار على استئصال الظلام والظلم، ويفتحون دروب الحرّيّة والعدالة، فما بال الذين يزعمون أنّهم محرِّرون في البلدان العربيّة، يلتقون مع الحكّام في جوقة العنف، ويحوّلون الصلاة إلى سيف، والفضاء إلى ممالك وخزائن؟ ما بال هؤلاء جميعاً يحصدون البشر كأنّهم يحصدون قشّاً؟ - 2 - بدأ ميشال فوكو، في السنتين الأخيرتين من حياته، يلقي محاضراته تحت عنوان «شجاعة الحقيقة»، مستنداً إلى مفهومها الأصليّ اليونانيّ: Parrêsia. يعني هذا المفهوم قول ما هو حقّ وصدقٌ في كلّ شيء. لكن أين العالم اليوم، من هذه الشجاعة؟ على العكس، يُزَوَّر الواقعُ نفسُه، ويتفنّن الافتراء في اختراع الوقائع، وتُبنى الحقيقة على هذا الافتراء. السيادة اليوم، أيها المفكّر الكبير، هي لشجاعة الكذب والافتراء! - 3 - ثلاث ظواهر في «الربيع العربيّ» للدراسة، ثقافيّاً وأنتروبولوجيّاً: 1 - انفجار «المكبوت» العربيّ - الإسلاميّ، على الصعيد الثقافيّ، 2 - تهديم العمران، على الصعيد المدنيّ، 3 - تفتيت المجتمعات، دينيّاً ومذهبيّاً وعرقيّاً. وهذا ما أدّى إلى انشطار المعايير، وانعدام النظرة الموضوعيّة، وغياب الأخلاق والقيم. ويبدو، في هذا كلّه، أنّ مفهوم «الأمّة» بات مجرّد استيهام دينيّ، وأنّ مفهوم «العروبة» كان، استناداً إلى التجربة، مجرّد استيهامٍ سياسيّ - دينيّ. - 4 - ما نسمّيه «الفكر العربيّ»، يبدو في مرآة الأحداث العربيّة أنّه مجرّد «إنشاء لفظيّ». يبدو كذلك أنّ مدار الحياة العربية - الإسلاميّة، فكراً وسياسةً، يتمثّل في السلطة. لا يجد العربيّ المسلم معناه إلاّ مرئيّاً أو رائياً في مرآة السلطة، سلباً أو إيجاباً. وهذا مما يحول دون نشوء فكرٍ عربيّ يتمحور حول الحقيقة، وحول البحث عنها، في استقلال عن التوظيف المباشر سياسيّاً واجتماعيّاً. الفكر العربيّ السائد معجمٌ سياسيّ - دينيٌّ لأبجديّة السلطة وثقافتها. - 5 - غيبٌ يستيقظ، ينهض، يقترب كأنه أكثر واقعيّةً من الواقع. - 6 - إذا سألنا كثيراً مِن العربِ المسلمين، اليوم: مَن العدوّ الأول للعروبة والإسلام؟ فإنّ «أكثريّة» الأجوبة لن تشير إلى إسرائيل، أو الولايات المتّحدة الأميركيّة، ولا إلى أيٍّ من الدول الأوروبيّة. إلى من ستشير، إذاً ؟ - 7 - الإيمان بالله هو، في الأساس وكما يُفتَرَض، ضمانٌ للإنسان، ضمانٌ أخلاقيّ وإنسانيّ. فما بال المؤمنين اليوم نجدهم يسخرون، عمليّاً ونظريّاً، من إيمانهم وباسم هذا الإيمان ذاته؟ - 8 - في بدايات القرن العشرين المنصرم عمل الاستعمار الغربيّ، ممثَّلاً على الأخصّ، في بريطانيا وفرنسا، على إيقاظ فكرة «العروبة» - القوميّة الوحدويّة، في عقول العرب ونفوسهم، لمحاربة الخلافة العثمانية، والتحرر منها، لكي يحلّ هذا الاستعمار محلّها، ولكي يتمّ القضاء على هذه الخلافة. اليوم، في بدايات القرن الحادي والعشرين، يحدث العكس: يدعم هذا الاستعمار، بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة، أو في ظلّها، على الأقلّ، اليقظة الإسلامية، للخلاص من العروبة القوميّة الوحدويّة. مَكرُ التاريخ، أم انهيارُ العرب؟ هناك أسبابٌ أخرى لكي يدعم الاستعمار هذه «اليقظة الإسلاميّة»: 1 - محاربة العلمانيّة وحركات التقدّم المدنيّ، 2 - خلق مناخ دينيّ إسلاميّ يلائم يهوديّة إسرائيل. 3 - خلق صراع داخليّ في المجتمعات العربية - الإسلامية: بين الأصوليّات « الأصيلة «، والحركات التقدّميّة «الدّخيلة». 4 - الإبقاء على غير المسلمين، بوصفهم لا يدخلون في البنية العميقة للمجتمع. يظلّون هامشيين، «ضيوفاً». - 9 - للجدران آذانٌ تعرف كيف تصغي إلى صوت التاريخ. الصوت الملتبس، المتشرّد في المدن وفي حياة البشر اليوميّة. حيث تبدو كثيرٌ من بلدان العالم كأنّها أسرابُ فيَلَةٍ شاخت، تنعزل بعيداً بعيداً لكي تتوسّد الموت. ولم تعد هذه البلدان إلاّ أعمدةً لغويّة، في تاريخ ينزف دماً، وله ثمارٌ تقطر السمّ. إن لم يأخذ الفجرُ الحذرَ، فسوف تقرضه جرذانُ العتمة. والحقّ أنّ على الفجر، من الآن فصاعداً، أن يكون أكثر ضياءً، وسوف يكون الشعر حليفه الأوّل. وها هي الطبيعة الأمّ لا تزال كما كانت في فجرها الأوّل. وكانت ثرثرة آدم قد أضنتها. خصوصاً أنه كان، كما يؤكّد، يملك مفتاحاً لكلّ شيء، ولهذا سرعان ما تحوّل هذا المفتاح إلى سجنٍ لا خلاص منه إلا بهدمه واستئصاله. - 10 - «الهنود الحمر» هم العلّة، والدّاء، وهم الزنادقة والهراطقة. وهم إذاً أصل البلاء. هناك دائماً «هنود حمر» في هذا الطرف أو ذاك. ولا عبرة للون البشرة. أنظروا غرباً، أنظروا شرقاً، أنظروا جنوباً. سبعة آلاف سنة من التجارب البشرية الكبرى في الفنّ والفلسفة والعلم والقانون، في سورية، ومن تمازج الأعراق والشعوب واللغات والثقافات، تُختَزَلُ في «أكثريّة» من هذا المذهب و»أقلّيّة» أو أقلّيّات من ذلك المذهب. بؤسٌ ثقافيّ وبؤسٌ في الوعي لم تعرف له مثيلاً هذه البلاد العظيمة سورية، في تاريخها كلّه. - 11 - ثوراتٌ... قتلت معنى الإنسان ومعنى الثورهْ: الشاعر فيها هرطوقيٌّ، والحبّ، كمثل الحكمة، عَوْرَهْ. - 12 - العالم داءٌ لا دواء له إلاّ الثورة. لكن ما دواء الثورة إذا تحوّلت هي نفسُها إلى داء؟ - 13 - لا تنَمْ أيُّها الأملُ لا تَنَمْ الليلُ غطاءٌ من الإبَر لا تَنَم الوقتُ رملٌ في الرّئة لا تَنَمْ الحياةُ فرَسٌ تسبح في ماءٍ أسودَ لا تَنَمْ لا تَنَمْ.