كثر الحديث بعد استقالة الرئيس نجيب ميقاتي وتسمية الرئيس تمام سلام لتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، على أنها مؤشرات إلى تغييرات إقليمية أخذت تطاول الوضع اللبناني، ووجد بعض الأوساط في انضمام قوى 8 آذار إلى قوى 14 آذار و «جبهة النضال الوطني» النيابية في تسمية سلام، تعبيراً عن تلاق سعودي إيراني على تحييد الساحة اللبنانية عن الصراع الكبير الدائر في المنطقة. وما أعطى دفعاً للتكهنات في هذا الشأن، انفتاح قوى 8 آذار وحلفائها على السفير السعودي في بيروت علي بن عواض عسيري، الذي زاره المعاون السياسي لرئيس البرلمان نبيه بري الوزير علي حسن خليل قبل أسبوعين، باسمه وباسم «حزب الله» كما قيل، بعد أن كان عسيري لبى دعوة خليل إلى العشاء في حضور قياديين من الحزب و «التيار الوطني الحر» إثر تسمية سلام لرئاسة الحكومة. وتقول مصادر ثقة إنه بالإضافة إلى زيارة الوزير جبران باسيل عسيري لتطبيع علاقة زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون مع السعودية بعد انتقادات لاذعة وجهها الأخير لسياستها، كانت هناك رسائل انفتاح وجهها «حزب الله» إلى السفير السعودي عبر رسل وأصدقاء للحزب زاروه الأسبوع الماضي وأبدوا إيجابية ورغبة في تحسين العلاقة وفي أن تلعب المملكة دوراً إيجابياً في لبنان، وهو ما عبر عنه السفير عسيري قبل أيام بتصريح تلفزيوني قال فيه إن هناك تواصلاً من «حزب الله» مع السفارة منذ وصوله إلى لبنان، وإنه يتواصل مع القوى السياسية قاطبة، والحزب من ضمنها. وقال السفير إنه كان هناك فتور (مع الحزب) «لكن اليوم الأوضاع سارة، والجميع اكتشف سياسة المملكة عدمَ التدخل في الشأن الداخلي، على رغم مطالبة البعض لها بهذا التدخل، وأنها تشجع الإجماع اللبناني». إلا أن أوساطاً لبنانية وأخرى عربية متابعة بدقة للأوضاع الإقليمية، تدعو إلى وضع خطوات الانفتاح هذه في إطارها الواقعي واللبناني، من دون التقليل من أهميتها أو نفي قيام الفرقاء المحليين بحسابات جديدة لمواقفهم نظراً إلى التطورات الإقليمية المستجدّة. الاستقالة في سياق الصراع وتقول الأوساط نفسها إن استقالة الرئيس ميقاتي بدايةً جاءت بفعل الأجواء الإقليمية السائدة والمعروفة، إذ اعتبر فريق إقليمي أن حكومته تغطي سياسةً معادية للدول العربية في ما يخص سورية، ولاسيما ما يقوم به «حزب الله» من قتال في الداخل السوري، واتهامه بالتدخل في الأوضاع الداخلية لعدد من الدول العربية، واكتشاف خلية له تعمل في البحرين، ثم اشتراك عنصر منه مع مجموعة سعودية بالعمل على جمع المعلومات لمصلحة إيران في السعودية، فضلاً عن اتهام الحزب بالتورط في عدة أحداث أمنية وإرهابية في أوروبا وآسيا. وتقول هذه المصادر إن دور هذا المناخ في استقالة ميقاتي كان مخالفاً لتوجهات «حزب الله» الإبقاء على الحكومة، ولذلك فوجئ الأخير حين نفذها ولم يكن يتوقعها. وتتابع المصادر أن الاستقالة لم تحصل في إطار توافق إقليمي، بل العكس، لأنها جاءت في سياق الصراع الإقليمي، وتذكّر بأن الموقف الخليجي والسعودي كان واحداً من عوامل الضغط الذي أدى إلى تكوين مناخ الاستقالة، بدليل الزيارة التي قام بها الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبد اللطيف الزياني للبنان ليطلب إلى الرئيس ميشال سليمان التزام لبنان سياسة النأي بالنفس والحياد رداً على ممارسات حلفاء إيران وسورية، قبل أسابيع قليلة من الاستقالة. وتقول غير شخصية لبنانية معنية بالوضع الإقليمي، إن ربط الانفتاح الحاصل لبنانياً بتقارب إيراني-سعودي «مبكر جداً وغير واقعي»، في ردها على تكهنات بعض القوى بأن التفاوض الغربي الإيراني على الملف النووي أخذ ينعكس على علاقة طهران مع الرياض، وبالتالي على لبنان. وتتفق هذه الشخصيات اللبنانية على تقويم معاكس لتوقعات الانفتاح الإيراني-السعودي، وترى أن عودة الدور السعودي إلى لبنان يأتي في إطار استعادة الرياض المبادرة على الساحة اللبنانية بعد أن خلت للجانب الإيراني وحده سنتين ونصف السنة، إثر إفشال جهود «سين سين» بداية عام 2011، بحيث يمكن السعودية أن تحتاط بعد الآن لإمكان حصول اتفاق بين أميركا وإيران يكرس نفوذ الأخيرة على الساحة اللبنانية وتحول دونه، فالرياض حذرة بشدة حيال إمكان حصول أي توافق على حساب دورها الإقليمي، ليس في لبنان فحسب بل في المنطقة برمتها، لا سيما في ما يخص الأزمة السورية، وهذا ما يجعل ما يجري في لبنان شديد التعقيد وبعيداً من التبسيط. وتعتبر إحدى الشخصيات المعنية بقراءة الوضع الإقليمي، أن فريق 8 آذار سعى إلى التكيّف مع انتزاع المبادرة منه باستقالة الحكومة، بتشجيع وضغط من رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وإن كان بعض أوساط الأخير يراهن على تقدم المفاوضات مع إيران بحيث تنتج تقارباً مع الرياض قد يكون الانفراج اللبناني بدايتَه. لكن لهذا الأمر حسابات أخرى، في ظل مواصلة إيران دعمها نظام الرئيس السوري بشار الأسد، الذي تعتبر السعودية أنه فقد شرعيته، بالرجال والعتاد. تكيّف 8 آذار وتعزو الشخصية نفسها الانفتاح اللبناني على المملكة وتكيّف قوى من 8 آذار مع تسمية الرئيس سلام (على رغم صدمة بعضها بانضمام النائب وليد جنبلاط إلى فريق 14 آذار في دعمه)، إلى مزيج من مواكبة المناخ الإقليمي القائم من جهة ومحاولة التخفيف من خسارة الأكثرية النيابية واستباق أي تسويات إقليمية من جهة أخرى. وبهذا المعنى، فإن خلط الأوراق جعل الرئيس بري يسعى إلى مواكبة المناخ الإقليمي، مراهناً على نجاح التفاوض الدولي في ترجيح الانفراج الإقليمي، مع حرص على الإفادة منه لتنفيس الاحتقان السني الشيعي في لبنان. أما «حزب الله»، ومع مماشاته بري في توجهه هذا، فإنه يسعى إلى التخفيف من خسائر فقدان أحادية المبادرة بيده بعد الآن، وتجنّب المزيد من المعارك في وقت يتعرض للحملات لخوضه معركة حماية النظام السوري وصدِّ التحالف العريض الذي يعمل على حرمان طهران ورقةً حاسمة في تعزيز دورها في المنطقة، ووظفت الكثير للحصول عليها. وفي أحسن الأحوال، يسعى الحزب إلى مواكبة المفاوضات الإيرانيةالغربية، حتى إذا أنتجت تسوية عجّلت في تقارب طهرانوالرياض يكون هو متهيئاً لها بانفتاحه مسبقاً على الجانب السعودي. هاجس عون أما العماد ميشال عون، فهاجسه ألا تأتي أي تسوية إقليمية محتملة على حسابه في ظل التحالفات الإقليمية للثنائي الشيعي، والتي قد تضمن موقعَي طرفيه في المعادلة، وهو انزعج من أن استقالة ميقاتي تمت بعد مفاوضات بين الأخير وبين الحزب من دون معرفته بالتفاصيل، وتخوف من أن تكون تمت نتيجةَ مستجدات إقليمية. ومن دون أن يعني ذلك أن عون يتجه إلى إعادة النظر في تعاونه الوثيق مع «حزب الله»، فإن أوساطه تتحدث عن بداية حسابات مختلفة عن حلفائه، منها اقتناعه بوجوب إجراء الانتخابات النيابية في أقرب فرصة، مقابل تفضيل «حزب الله» تأجيلها إلى أن تتضح صورة الوضع الإقليمي أو إلى أن تحصل تسوية خارجية تضمن مواقع الفرقاء فتجري الانتخابات تحت عباءة تلك التسوية، التي تحتم توافقاً داخلياً عليها تتحكم بالنتائج، لأن نتيجة حصولها قريباً ليست مضمونة لمصلحة الحزب وحلفائه، في ظل صعوبة الاتفاق على قانون انتخاب يريح هؤلاء. كما يعيش عون أجواءَ أنه أعطى الكثيرَ لحلفائه، ويجب أن يفكر بفتح باب الحوار مع بعض الخصوم ليأخذ لنفسه هامشاً نسبياً من الاستقلالية. أما الديبلوماسية السعودية في بيروت، فلا تعطي أسباب الانفتاح الذي تمارسه أو الذي يحصل من قوى 8 آذار في اتجاهها، بُعداً إقليمياً، مع إقرارها بأن المناخ الإقليمي ساهم في استقالة حكومة الرئيس ميقاتي، وهي تكتفي بالإشارة إلى أن سياستها تجاه لبنان لمصلحة الاستقرار قائمة بمعزل عن أي انفتاح إقليمي. وتقول المصادر الديبلوماسية السعودية في بيروت إنها تنطلق من ثوابت الانفتاح على جميع الفرقاء، حتى الذين تختلف معهم، لتشجيعهم على التلاقي ومعالجة المشاكل الداخلية، لأن حفظ الاستقرار اللبناني هو المعيار بالنسبة إليها، والهمّ الآن تحييد لبنان عن تداعيات استمرار الأزمة السورية، بغض النظر عن حصول تقارب أو لا مع طهران، فالعلاقة مع الأخيرة تعالَج في أطر أخرى غير الإطار اللبناني. ولذلك، فإن السفير عسيري شدد أمام من التقاهم من قوى 8 آذار على أهمية اتخاذ كل الخطوات التي تحول دون الفتنة السنية - الشيعية، التي يصفها بأنها «مميتة»، معتبراً أن محاربتها تحتاج إلى القوى المعتدلة لا إلى المتطرفين. وترى المصادر السعودية أن إبداء الرئيس سعد الحريري استعداده للحوار مع «حزب الله» في تصريحات أدلى بها في باريس قبل أسبوعين، خطوة جيدة في هذا السياق.