مع بدء ضخ الغاز الطبيعي من بئر «تامار» الاسرائيلي، في عرض البحر الابيض المتوسط، مطلع الأسبوع، بدأت اسرائيل تفتش عن دور سياسي استراتيجي جديد في الشرق الأوسط أبعد من الجدوى الاقتصادية الهائلة التي تجنيها من هذه الثروة الطبيعية. فإلى جانب تأثير هذا الانجاز في العلاقات مع تركيا، يخطط الاسرائيليون اليوم لرفع مكانتهم السياسية الاقليمية وتوسيع دورهم وتأثيرهم في العلاقات الدولية المحيطة، وأبعد من ذلك أيضاً على صعيد القارة الأوروبية. والخطة الاسرائيلية مبنية أولاً على الاستغناء عن الغاز المصري الذي «لم يعد مضموناً للزبائن وبات عنصر تهديد لكل من يشتريه»، وفق الخبير الاقتصادي نحميا شتسلر. فمع تفجير الأنابيب قرب العريش التي توصل الغاز إلى اسرائيل والأردن، في زمن الرئيس حسني مبارك بداية، وتكرار عمليات التفجير بعد سقوط مبارك وتولي الإخوان المسلمين الحكم وطرح «المطلب الثوري» بحرمان اسرائيل الغاز المصري، باتت اسرائيل مع اكتشاف حقول الغاز الضخمة دولة ذات اكتفاء ذاتي من هذه المادة الحيوية، بل هي تستطيع تصدير الغاز إلى الأردن الذي أدى تفجير الآبار المصرية إلى انقطاع الغاز عنه مراراً ولأسابيع طويلة. والسلطة الفلسطينية أيضاً، التي تقيم محطة توليد كهرباء في جنين، تريد أن تستخدم الغاز بدلاً من الديزل، وهي معنية بشراء الغاز الاسرائيلي لأنه سيكون أدنى كلفة من الديزل، والوصول إليه أسهل. وكانت اسرائيل قد تعاقدت مع اليونان على بيعها الغاز، ولكنها تطمح إلى بلوغ أسواق أخرى في أوروبا، خصوصاً بعد نشوب الأزمة الاقتصادية الخطيرة وخفض تصنيف اليونان في سلّم ضمانات القروض. كما ان قبرص، المعنية بدورها بالتعاون مع اسرائيل في موضوع الغاز وحمايته، تريد أن تتحول إلى مركز يستقطب صناعة الغاز الاسرائيلية بهدف توزيعه من أراضيها. وقد كانت أبرمت اتفاقاً مفاجئاً مع اسرائيل، يتيح للأخيرة أن تكون شريكة في أعمال التنقيب عن الغاز والنفط مقابل سواحل قبرص. الدور التركي وتعد اسرائيل لتركيا دوراً مميزاً في هذه الصفقة على مستوى التوزيع في دول أوروبا الغربية. ويتضح أن المصالحة الاسرائيلية-التركية الأخيرة لم تأت فقط بدافع الضغوط الأميركية ولا بدافع تقاسم الأدوار في سورية ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، بل يتيح إبرام صفقة مع اسرائيل لتركيا أن توزع الغاز الإسرائيلي عبر أراضيها إلى أوروبا. وقد سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى الاعتذار لنظيره التركي رجب طيب أردوغان عما حدث لسفينة «مرمرة» (مقتل تسعة أتراك خلال الهجوم الاسرائيلي العدواني على المشاركين في «أسطول الحرية»)، لكي يطوي هذا الملف بسرعة. وما التجاوب التركي مع هذه الخطوة سوى دليل على الرغبة في أخذ دور في صفقة الغاز. وتتوقع اسرائيل أن يؤدي الغاز إلى تحول في السياسة التركية تجاهها، أكان ذلك في الموضوع الفلسطيني أم في الموضوع السوري أم في الموضوع الايراني. وتأمل أن تحقق لها هذه الصفقة انطلاقة نحو اتفاقات جديدة وإحياء اتفاقات قديمة، بخاصة من ناحية الصفقات العسكرية والاسلحة والتدريبات العسكرية المشتركة. تخفيف الضغوط الأمنية وتدرك اسرائيل أن تغيير العلاقات مع تركيا في الاتجاه الايجابي، سيخفف الضغوط الأمنية عن آبار الغاز، فالمعروف أن اسرائيل، ومنذ اكتشاف حقلي الغاز «تامار» و «لفياتان»، وضعت قوات كبيرة من سلاح البحرية وسلاح الجو ووحدات الكوماندو لحراستها من عمليات تفجير وهجمات مسلحة. وبدلاً من نقل الغاز بالأنابيب أو النقل البحري إلى أوروبا، وما ينطوي عليه ذلك من عمليات حراسة ضخمة، تفضل اسرائيل مد الانابيب في قاع البحر الى تركيا، كونها الوسيلة الاسهل والارخص والأكثر أماناً والأجدى اقتصادياً. وتركيا من جهتها وكذلك دول أوروبا، تقع اليوم تحت طائلة الغاز الروسي، وتعاني من إملاء شروط روسية عليها، تتجاوز حدود «البائع المتحكم بمصير زبائنه»، إذ إن دول الغرب تحذر من الدخول في صدامات مع روسيا في قضايا سياسية شائكة، مثل الموضوع السوري والموضوع الايراني. ومن هنا، يخطّ تحول اسرائيل إلى دولة مصدرة للغاز معادلات جديدة، تضعف الموقف الروسي وتستبدله في مواقع عدة بنفوذ اسرائيلي. ومن علامات هذا النفوذ، أن دول الغرب انفضت عن لبنان الذي يطالب بحصة في الآبار الاسرائيلية باعتبار أن قسماً منها يقع في منطقة «المياه الاقتصادية» اللبنانية. فقد كان لبنان توجه إلى الأممالمتحدة بشكوى، وبدأ الغرب يبحث في امكان تشكيل لجنة تحكيم بين الطرفين. ولكن، بعدما اصبح الغاز حقيقة واقعة، لوحظ تغيير في مواقف الغرب. وتلقى لبنان نصيحة بأن يتنازل عن الشكوى ويتجه إلى محاولة تنقيب لاستخراج الغاز من المناطق اللبنانية المجاورة. وتلقى عروضاً من 52 شركة أجنبية، غالبيتها من الغرب، للدخول في مناقصة على هذا المشروع. وكانت اسرائيل قد اكتشفت آبار الغاز في عمق البحر الأبيض المتوسط منذ عام 2009، وركزتها في بئرين اثنتين، هما «تمار» و «لفيتان». وكثفت جهودها لإنهاء العمل ومباشرة ضخ الغاز، وخصصت موازنات هائلة لذلك، لفرض الأمر الواقع ومنع أي مساءلات دولية. وجعلت العمل في بئر «تمار» يتم عبر منصات في اسدود، بعدما فشلت جهودها في اقامة منصة الغاز قبالة شواطئ حيفا خشية تعرضها لاعتداءات او اطلاق صواريخ، في حال وقوع مواجهات على الجبهة الشمالية. ويحتوي حقل «تامار» على اكثر من 280 بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي فيما تجاوزت تكاليف التنقيب عن الغاز وسحبه ثلاثة بلايين دولار. أما حقل «لفيتان»، ويعني الحوت، فيقع على مسافة 135 كيلومتراً شمال غربي مدينة حيفا، ويحتوي على 453 بليون متر مكعب من الغاز، وهي كميات ضخمة تصل قيمتها إلى نحو 45 بليون دولار. واعتبر الاسرائيليون أن النجاح في ضخ الغاز هو بمثابة نقطة تحول في تاريخهم. اذ تصبح اسرائيل مستقلة في كل ما يتعلق الغاز، ما يعني أنها حققت انجازاً قومياً كبيراً، حتى ان وزير الطاقة والمياه سيلوفان شالوم لم يتردد في القول ان «اسرائيل اصبحت بعد هذا اليوم مختلفة تماماً، وإذا كانت ستعتمد على ذاتها في الغاز من حقل «تامار»، فإن مباشرة الضخ في حقل «لفيتان» سيجعلها مصدّرة غاز للعالم كله». الموازنة العسكرية ومع الحديث عن الارباح الطائلة من ضخ الغاز، ينتقل هذا الملف الى طاولة النقاش حول الموازنة العسكرية التي تشهد هذه الايام خلافات بين وزير المال يائير لبيد من جهة ووزير الدفاع موشيه يعالون وقيادة الجيش من جهة اخرى. فلبيد الذي صرح ان الاوضاع في المنطقة لا تتطلب الاستعدادات التي يجريها الجيش والموازنة التي يطالب بها لضمان فعالية هذه الاستعدادات، سيواجه قراراً للمؤسسة الامنية يؤكد أهمية توفير المال لضمان حماية حقول الآبار في البحر المتوسط، وهذا سيكون ذريعة قوية تستخدمها القيادة العسكرية في معركتها لمنع التقليصات في الموازنة، بل ستؤكد طلبها زيادة الموازنة العسكرية بليوني شيكل. فقد اقرت المؤسسة الامنية خطة حماية لحقول الغاز من عمليات معادية، بخاصة من لبنان، وتفجيرها عبر صواريخ او سفن مفخخة. وفاقت كلفة الحراسة وحماية منصات التنقيب وحقلَي الغاز مئتي مليون دولار. ونشر سلاح البحرية وحدة خاصة لمراقبة منصات الغاز مستخدماً قوارب غير مأهولة وطائرات من دون طيار ووسائل اخرى متطورة. وتأتي كل هذه الحجج في اطار بحث الجيش الاسرائيلي عن مصادر دخل إضافية تمنع تقليص الموازنة العسكرية، مؤكداً أن تحول اسرائيل إلى دولة غاز يحتم عليها إجراء تغييرات استراتيجية في واقعها الأمني. فالآن، يحتاج الحفاظ على هذه الآبار سليمة، إلى اقتراحات ومشاريع، في صلبها إجراء تعاون أمني مع تركيا وزيادة التدريبات وتوسيع مهمات القوات العاملة في جبهات بعيدة من حدود الدولة المعترف بها (حدود 1967).