«غود لااااك يا بااااسم!» جلجل هتاف برنامج «البرنامج» الأشهر في أرجاء شوارع وسط القاهرة بينما كان مقدم البرنامج الساخر باسم يوسف بعينيه الملونتين اللتين أثارتا سخرية مذيعي الفضائيات الدينية ومحبيها، وشعره «المسبسب» الذي طالما أجج غضب كارهي السخرية السياسية ممن تربوا على حتمية أن يكون كل من السياسي ومعارضه أشعث الشعر غليظ الملامح ممل الكلمات متحجر العبارات. بعبارات ثورية حماسية متأججة التف كثيرون من المحيط إلى الخليج مروراً بشارع 26 يوليو وسط القاهرة (مقر دار القضاء العالي) حول طبيب القلب ومداويه باسم يوسف ليمثل للتحقيق في تهمة (غير واردة في البلاغات) هي الترفيه عن الشعب المصري ومعه الشعوب العربية، إضافة إلى ثالوث الاتهامات التاريخي (الوارد في البلاغات): ازدراء الدين وإهانة الرئيس وإثارة البلبلة. البلبلة العربية التي ثارت أمس أكدت بما لا يدع مجالاً للشك، أن «القومية العربية»، وإن أحيلت على التقاعد موقتاً، تنبض بالحياة بطرق أخرى وتضخ روح التضامن وتبعث مشاعر المؤازرة تحت شعار «كلنا في الهم سواء وجميعنا في القهر واحد»! واحد ممن وقفوا يؤازرون يوسف في الهجمة «الإخوانية» المؤيدة بالسلفية المصوبة ضده جواً عبر لجان إلكترونية تسب وتلعن، وبراً من خلال عشرات البلاغات من أعضاء ومنتسبي وحلفاء الجماعة المدافعين عن حكم «الإخوان» وكرسيهم المكتسب بالصندوق وبحراً بفضل دعم محبي الجماعة عبر الحدود، قال ببراءة واضحة وذكاء لا ريب فيه: «حتى الضحكة استخسروها فينا؟ هذا ظلم وبلاهة». «الفكاهة في مقابل البلاهة» هو محتوى التغريدة التي كتبها الشاعر عبدالرحمن يوسف متضامناً مع باسم يوسف، وكانت لسان حال المشهد الساخن أمس. فحرارة الجو التي بلغت 36 درجة مئوية ارتفعت إلى أضعاف ذلك بتفجر غضب محبي يوسف وتعليقاتهم باعتباره بسمة ترسم على وجوه أنهكتها سلطة ملتبسة ومعارضة مرتبكة، وعاشقي حرية الرأي والتعبير ممن خرجوا من «مطب» حسني مبارك وتكميم الأفواه إلى «حفرة» محمد مرسي وبتر الأفواه كلية جنباً إلى جنب مع «الصباع» العابث بمصر. وفي مصر كان حديث الشارع أمس عن باسم يوسف: «وصل ولا لسه؟»، «ماذا قالوا له؟»، «هل نفى التهم؟»، «خرج؟»، «لسه؟»، «ماذا؟ لا! سلطانية؟! مش معقول». لكن المعقول الوحيد في زمن ما بعد ثورة قامت من أجل مزيد من الحرية وانقلبت لتطبق على أنفاس كل الحريات السابقة واللاحقة المكتسبة والمقتنصة، هو أن يلجأ الكل إلى اللامعقول. مشهد يوسف المحاط بأنصاره ومحبيه ومعتصمي «حركة 6 أبريل» على باب مبنى دار القضاء العالي وهو يرتدي «سلطانية الفلسفة» (القبعة التي ارتداها في حلقة من برنامجه ساخراً من الزي الذي ارتداه الرئيس مرسي خلال احتفال باكستان بمنحه دكتوراه فخرية) أعاد رسم البسمة على الشفاة المتعبة والمنهكة وأراح المرارات المفقوعة والقلوب المنفطرة والعقول الغاضبة لبضع دقائق، لكن الشبكة العنكبوتية كتبت لها الخلود. تطايرت صورة باسم يوسف مرتدياً «السلطانية»، وهي أحد أدلة الاتهام وأحراز جريمة الإهانة، فغرد العرب يميناً ويساراً ودونوا شرقاً وغرباً وتوالت ال «لايكات» وتفجرت ال «شيرات» حتى ملأت أرجاء المعمورة بعدما غزت المحروسة. لكن المحروسة تحوي هذا وذاك، ومثلما غضب كثيرون لأمر ضبط وإحضار من يداوي قلوبهم العليلة ضحكاً مساء كل يوم جمعة، فرح آخرون ممن يؤمنون بأن الضحك قلة أدب، وإن اختلفت أسبابهم. العاملة مرفت (32 عاماً) تعارض السخرية من آخرين على الملأ، خصوصاً لو تضمنت السخرية ألفاظاً ذات إيحاءات جنسية. والموظف أحمد (56 عاماً) يرى في ما يقدمه باسم يوسف «مسخرة وقلة قيمة» لا سيما حين تطاول سخريته «السيد الرئيس الحافظ كتاب الله». أما المهندس حسين (48 عاماً) فيطالب بمنع «مثل هذه التفاهات التي تدمر عقول الشباب وتزرع في الصغار قيم الانحلال والفسق والفجور». ولأن كثيرين حين يسمعون هذا الثالوث المرعب «انحلال وفسق وفجور» يسيل لعابهم خلسة وتستنفر قرون استشعارهم علناً للدفاع المميت والأعمى، فما إن نطق حسين بهذه الكلمات حتى كبر زميله مطالباً بعودة يوسف إلى عالم الطب وهجر مجال قلة الأدب «وإلا تقطع رقبته». وبسؤاله عن الفقرات التي لم تعجبه في «البرنامج»، رد بكل ثقة: «أنا لا أشاهد هذه التفاهات». هذه التفاهات وحّدت صفوف الكثيرين من أبناء العروبة، فتضامن من تونس «الثورة» كثيرون، وهب شباب لبنانيون يدافعون عن يوسف وحرية التعبير، وغرد من غرد من المغرب والجزائر مؤيداً لخفة الدم في مقابل ثقل الظل، وتواترت عبارات تأييد من دبي وأبو ظبي وغيرهما من العالم العربي، أو على الأقل ممن يحبون «البرنامج» ويؤمنون بحرية التعبير. لكن الوجه الآخر من «ضبط وإحضار» باسم يوسف، وبصرف النظر عن نتيجة البلاغات، هو أن منظومة الحكم الحالي في مصر، سواء الجالسين فعلياً على الكرسي أو الوصيفة الأولى التي تنتظر دورها بفارغ الصبر لا تعترف بالسخرية، ولا تعتنق الدعابة، ولا تؤمن بمعارضة النظام، ناهيك عن مسخرته. وتزيد الطين بلة بتلك الصبغة الدينية التي تجعل من انتقاد الرئيس انتقاداً للدين، ومعارضة سياساته معارضة لكتاب الله، والمطالبة بإسقاط النظام مطالبة بإسقاط الإسلام، والتظاهر ضد حزب الرئيس تظاهر ضد ممثلي القوى الإلهية على الأرض. ويتعارض مبدأ «السمع والطاعة» الذي تدين به غالبية أعضاء ومنتسبي ومحبي جماعات الإسلام السياسي وفكرة التنكيت السياسي، فالنكتة خروج على الآداب، والسخرية مسخرة وقلة أدب، واصطياد أخطاء الرئيس صيد في المياه العكرة وإهانة لشخصه، وانتقاد احتكار الجماعة مفهومَ الدين ازدراء للدين، ورفض سياسات الحكم بلبلة للنظام وإثارة للرأي العام. وبين قطع الرقبة، وبتر اللسان، وتعطيل العقل وتوقيف القلب يقف باسم يوسف بين محبيه وكارهيه متأرجحاً بين منظومة حرية الرأي والتعبير، ونعمة إسعاد القلوب ورسم البسمة على الشفاة فاتحاً لوناً غير معتاد من السخرية السياسية من جهة، وبين منظومة قلة الأدب وانعدام الاحترام ونقمة إشاعة الانحلال والفسق والفجور ومحو البسمة من على الشفاه بدعوى إغلاق باب السخرية السياسية واحترام الكرسي طالما نحب من يجلس عليه من جهة أخرى.