إن إنتاج النص التفاعلي يستلزم وجود مكتبة تفاعلية غنية بالمحتوى العربي المتنوع ثقافياً وتاريخياً وجمالياً، سواء على المستوى البصري أم المسموع أم المكتوب، وهو أمر غير متوافر كما ينبغي في اللحظة الراهنة. وهذا عامل لا يتحمل المبدع وزره، ويمكنه التعامل معه بشيء من المرونة، وتجاوزه إلى خزين اللغات الأخرى، إلا أن ما ينبغي أن يتقنه هو متوالية عالم النت كالروابط، والأنيمشن، والبي دي إف، والإتش تي إم إل... إلخ، بمعنى أن يكون على صلة بالكوننة الثقافية. أي داخل مستوجبات قرية مارشال ماكلوهان ذات الرنين اليوتوبي، وهو ما يعني أنه بصدد إنتاج نص افتراضي داخل عالم افتراضي يتأسس الخطاب داخله من واقع المتصفح الكوني، الذي يعادل القارئ الضمني في الأدبيات القديمة. ومن يقارب ذلك النص، يلاحظ أنه يتولد في الأصل من أفق انمساح الهويات الثقافية وعلى قاعدة التجانس الثقافي، لأنه ناتج مما تسميه الناقدة أندريا سيبريني عن عولمة الخيال، أو بمعنى أكثر تحديداً من الوجهة التقنية هو الخيال غير الفني المعادل لطاقة الفنانين التخيلية، الذي يمكن اشتقاقه وامتصاص موحياته، بحسب إدوارد باولوزي من حقل التكنولوجيا. بمعنى أنه نص أدائي ينهض على التوليف ما بين الوسائط السمعية البصرية، واستحضار التأثيرات المسرحية وعروض الفيديو وفنون التصوير. ذلك يعني أن المؤهل لإنتاجه هو كائن على تماس مباشر مع ما يسميه عالم المستقبليات الفن توفلر الموجة الثالثة التي تتمحور في تقنية المعلومات، وفي صميم كل ما يُنتج بشكل متواتر في عالم الملتيميديا. إذ قال بأنهما – أي المعلومة والاتصال «سيصبحان منذ الآن مقياس كل شيء، لأنهما أساس المركز الفعال لأي مجتمع». بمعنى أن يقيم منتج النص الإلكتروني في حال من اللاتزامن واللاتماكن، بل في برزخ معولم عائم وغائم. هنا تكمن المفارقة، فالنص الإلكتروني قرين الديموقراطية. وعندما قال ستيف جوب بأن «الديموقراطية هي حاسوب لكل شخص» لم يكن يتحدث عن الآلة المادية بمعزل عن ممكناتها اللامادية. أي عن القيمة المعنوية المفهومية من خلال ذلك الاستخدام. كما أن الاتصال ذاته وثيق الصلة بالنزعة الليبرالية. وهو ما يعني أن النص الإلكتروني المفترض أن يُنتج عربياً، لا بد أن يتولد من خلال تلك الحضانات ذات الطابع السياسي والاجتماعي، وليس عبر منظومة من الألفاظ والقوالب التحرُّرية المستعارة. فالثورة في عالم الميديا، كما يقول فريدريك بارابيه في تاريخ الميديا، من الممكن أن تؤدي إلى ثورة داخل المجتمع. لا يمكن لنصٍ إلكتروني أن يفارق البنية المتولّد فيها. ولا يمكن تصور الجهد المطلوب للشعر العربي الحديث الذي ما زال في جانب عريض منه أسير النظم الشفوي أن يتواءم مع تعقيدات الفضاء السيبراني، وما يتشكل فيه من النص التشعبي والما وراء. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن ما أُنتج حتى الآن، وما سينتج من نصوص عربية إلكترونية موصوفة بالما بعدية، يُفترض بل ينبغي أن يكون مؤداة من ذوات خاضعة بشكل تفاعلي لتأثيرات آتية من خارج المدارات المعاشة عربياً. هذا هو الشرط المستحق لاستيلادها. فالذات المتصدية لهذه المهمة لا بد أن تمتلك الوعي اللازم بالأحداث في العالم، وتجد نفسها في حال من التشارك الفعلي لتطوير المعرفة الجمالية وتبادلها بشكل حر عبر النص. مع توافر شرط الاغتراب بمعناه الفلسفي، الذي يجعل الفرد المبدع في حال من التخارج والانفصال من واقع معايشته واستيعابه لروح العصر، فالتحول إلى الكتابة الإلكترونية بمعانيها التشعبية والرقمية يحتم تحويل مجمل النشاط الفني والأدبي إلى نشاط اجتماعي إعلامي، يقوم على الإعلام والتحريض وتحطيم الحدود بين كل أشكال التعبير والحواس، لملاقاة شروط المقالة المتعدّدة الأشكال والسرد البصري. هناك نوعان من التجاوز التي ينبغي للمنادين بتوطين النص الإلكتروني في الثقافة العربية مراعاتهما: تجاوز النوع، وتجاوز المجال. وهذا الإجراء الحتمي المزدوج لا يقوم على عقيدة معاداة الشكل لمجرد المغايرة والاختلاف. بمعنى أن يموضع النص الإلكتروني قبالة أو بعد قصيدة النثر مثلاً. بل ينبغي أن يكون نصاً كونياً أيكولوجياً ومتقاطعاً مع حاثات اللحظة المتبدلة باستمرار. أي أن يعي معنى التحول والانحراف في الرؤية الأدبية الفنية، عبر التاريخ، وتماسها الحاصل مع الفيزياء الحديثة والصور والمعلوماتية المنبثقة في جوهرها من قداسة مضاعفة بحق الحصول على المعلومة. هذا ما تقترحه الثقافة الإلكترونية. أي نص مفتوح النهايات يتأتي من مدارات ما بعد الحداثة، بما هي نتاج الحياة الصناعية والتقدم التكنولوجي الجارف الذي يتبأر في مجال ثورة المعلومات وطفراتها الهائلة، ورفض محدودية وقداسة الأنساق الفكرية المغلقة. على اعتبار أن النسق المفتوح هو الكفيل بتدمير الشمولي والمركزي، والانطلاق من بنية منزوعة المركز تضع مصير الإنسان فوق كل اعتبار. الأمر الذي يستوجب من منتج هذا النص، أن يجدد جهاز مفاهيمه إزاء التاريخ والجغرافيا والزمن. قبل استجلاب النص الإلكتروني إلى الفضاء العربي، واستعارة أدواته لا بد من استدخال مداراته الاتصالية كمدخل لفهم أبعاده التنظيرية الأدبية التي يتأسس ويتشكل فيها. أي وعي الظواهر المصاحبة لهذا النص وما يحفّ به من تداعيات صادمة. وفي هذا الصدد يمكن التمثيل بتحليل إسحق عظيموف للعري العمومي - مثلاً - الممارس على الملأ في صالونات المحادثة الإلكترونية، إذ لا يعتبره صادماً في مجاز العالم الحديث، إذ يلتقي فضاءان أحدهما فائق الخصوصية في مقابل آخر فائق العمومية من خلال صورة هي في واقع الأمر ليست أكثر من صورة من بين كتلة الصور الميدياتية، لا تورط من تمثله بشكل شخصي. هذا هو واقع وطابع الإنسي الاتصالي الذي ينبثق عنه منتج النص الإلكتروني، فهو كائن حديث مسيّر من برا، كما يعرّفه نوربيرت فاينر، وليس له جوانية. وعلى عكس الإنسان الغارق في النزعة الكلاسيكية المسيّر من جوا، بعمق المشاعر، وغنى الحياة الداخلية، يبدو الإنسان الاتصالي الجديد مدفوعاً بجوانية موجودة بكاملها خارجه. كما ينقل فيليب لوبرتون عن غاستون باشلار. بحيث يستمد طاقته ومادته الحية «ليس من خصاله الداخلية الآتية من أعماقه هو، إنما من قدرته كفرد موصول أو بتماس مع أنظمة اتصال واسعة على تجميع ومعالجة وتحليل المعلومة التي يحتاج إليها كي يعيش». إن النص العربي الإلكتروني ما زال يعيش هشاشته وتيهه، ولم يفارق تهويمات نقطة الحلاج، فالصورة المعلوماتية التي ظهرت في بداية الثمانينات من القرن الماضي، التي كانت لا تتجاوز ال16 لوناً ضوئياً تضاعفت بالملايين. ولم يعد البايكسل الذي يشكل قوام تلك الصورة يظهر بذلك الوضوح الذي كان عليه في البدايات داخل مساحات لونية، إلا أن الوعي العربي بعصر الانفجار المعلوماتي لم يستوعب ذلك التقدم وما زال يتطفل كمستهلك على منتج الآخر، وبالتالي لا يمكن للنقد أن يتقدم باتجاه مناقدة المنتجات الإلكترونية الجديدة باعتبارها منتجات إنترنتية منقطعة تاريخياً وإجرائياً وأدائياً عما قبلها. لدرجة أن سعيد بن كراد أغلق الطريق أمام العبث الإلكتروني، ووصف الأدب الرقمي بالجماليات المستحيلة. حين قال «باستحالة جماليات رقمية تقدم للعين أجمل مما يقوله اللفظ».