النقطة كما قال الحلاج أبو المغيث في كتابه الطواسين «هي أصل كل خط، والخط كله نقاط مجتمعة فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط». وها هي اليوم في العصر التكنتروني، بتعبير مستشار الأمن القومي السابق زبيغينيو بريجنسكي، تأخذ شكل البايكسل وتؤدي الوظيفة الكتابية التشكيلية ذاتها، إنما بمديات أبعد وأوسع وأكثر تعقيداً. إذ بات العالم أمام منتج إبداعي إليكتروني، آخذ في التكثُّر والاتساع، يتمثل في استقبال منتجات أدبية وفنية يُنظر إليها عربياً بشيء من الريبة أو اللامبالاة بالنظر إلى أن العالم العربي ما زال يُصنف ضمن العوالم التي تعاني مما يُعرف بالأمية الإلكترونية المتأتية في الأساس من حال تخلف سيبراني، مردها الاستنقاع في حضارة اللغة وعدم القدرة على إنتاج ما يليق بحضارة الصورة. ولأن الأدب التفاعلي إشارة من إشارات مجتمع التحضّر والحداثة، المؤسس على يوتوبيا الاتصال، تلاقي هذه المنتجات الصادمة لاعتيادات إنتاج وتلقي العمل الفني والأدبي حالة من الترحيب والتشجيع، كما تدفع العوالم المتقدمة (الإنسي الاتصالي) إلى التجريب الفارط، حتى وإن بدت فكرة الاتصال قيمة مهيمنة بحد ذاتها، إذ يوجد حتماً آلة قادرة على التفكير والتعلُّم والإبداع، حسب هوبيرت سيمون، الحائز على جائزة نوبل، الذي أعلن عام 1957 عن هذه البشرى بظهور جيل الديجتال، إذ تم اعتماد وتوسيع حقل الإنسانيات الرقمية والعمل على تعميق أدبيات السلوك الاتصالي. وعليه، تم طرح السؤال الفني بقوة على حافة التطور التقني، عن واقع وأفق الكتابة والتصوير في عصر الملتميديا. ولا شك أن إنتاج النص المترابط أو التشعبي، كما أرسى دعائمه الشاعر فانيفر بوش، يتجاوز فكرة الانتقال من أدائية النقطة بمعناها الكلاسيكي إلى عصرانية البايكسل بمعناه التقني. كما أن إبدال صفة (المستقبل) أو (المتلقي) في آداب وفنون عصر الطباعة إلى صفة (المتصفّح) في اللحظة الاتصالية الكاسحة، التي جعلته في موقع المشارك في بناء النص بعد أن كان على هامشه أو محجوباً عن آليات إنتاجه، لا يعني أن منتج النص قد قارب بالفعل اشتراطات النص التفاعلي، إذ لا يكمن التحدي في تغيير الأداة، بل في استحداث إطار أو جنس إبداعي قادر على احتواء (المعنى) الآخذ في الاتساع والتشظي والتنوّع، وإعادة بناء المسارات، فالإنسانية الجديدة بحسب نوربيرت فاينر مبتدع السيبرانية أو العلم العام للاتصال، تخص البشر كافة، وبالتالي فإن (الحياة لم تعد في البيولوجيا إنما في الاتصال). إن ما يحدث من تحولات في كيفية بناء العمل الفني والأدبي يعود في المقام الأول إلى انتقال جوهر النشاط الإنساني إلى عوالم الميديا، وإلى انقلاب في ديموقراطية الذوق ضد ما عُرف بدكتاتورية الحداثة المفلسة، وإرهاب الأدب الطليعي، وبعد تدمير سلطة المتحف والصالون وأروستقراطية الاقتناء، وحتى منطق السوق وضروراتها، أي الذهاب إلى تمجيد الزائل وتضئيل قيمة الجليل، وهو انحياز ثوري له مقدماته التي بشر بها - مثلاً - هربرت ماركوز في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» حين قال بأن «الثقافة الرفيعة كانت ترعى استلاب الفن فالصالون والأوبرا والحفل الموسيقي موجودة لتخلق وتوحي ببعد آخر للواقع ولها من الخصائص ما للعيد، فهي تتعالى على التجربة اليومية وتقيمها، أما اليوم فإن تقدم المجتمع التقني في سبيله إلى إلغاء هذه المسافة الجوهرية القائمة بين الفنون وبين نظام ما هو يومي». ولا شك أنه تحول يُنهي عصر (ما بعد الحداثة)، ويبشّر بما يسميه بريان كوغان عصر (الثقافة الإلكترونية)، التي تأتي بعد حقب متتالية من الفنون والآداب التقليدية والرومانتيكية والواقعية والحداثية وما بعد الحداثية، إذ يؤدي الإنسي الاتصالي دور الآلة في إنتاج واستقبال الفن والأدب، وبهذا تنتفي أهمية الموهبة التي كانت تميز الفنان أو الأديب في الجماليات القديمة، وتفتح الباب واسعاً لاستدعاء وإنتاج نصوص مكتظة بإشارات غريزية غير مثقفة، وهو تحول حذّر منه ت. س. إليوت عندما اعتبر أن الحفاظ على الطبقات الاجتماعية لا غنى عنه في عملية نقل وتناقل الثقافة، وأنه من دون (طبقة عليا) لا يمكن ضمان استمرار الثقافة الراقية. بينما يعني أن انفلات الفن والأدب من مكامنهما الطبقية سيعيد الثقافة الفنية كما كانت ملكة عامة. كما تنبأ بتلك الانعطافة أيضاً ويستان أودن في كتابه «الشاعر في أزمنة المدن» حين قال بأنه (أصبح من الطبيعي أن تُغري الفنون الجميلة غير الموهوبين الذين - لديهم ما يبرر مخاوفهم - بأن ما يتطلعون إليه هو حياة يقضونها في إنجاز عمل بدني تافه وبسيط، بينما يبقى الفنان مسؤولاً عما يقوم به، وهذا الافتتان بالفن ليس مرجعه طبيعة الفن نفسه، بل الأسلوب الذي يتبعه الفنان في العمل، فالفنان هو الوحيد، دون سواه، سيد نفسه في عصرنا هذا). وقد أدى هذا الافتتان - برأيه - إلى أمل خيالي (بأن الإبداع الفني شيء عام، شيء بمقدور البشر جميعاً إنجازه إذا ما حاولوا). وهذا هو تماماً ما أمات الفارق بين البشر المعنيين بإنتاج العمل الفني ومن كانوا خارج سياقاته، وفي هذا الصدد يقول آلن تورنغ أحد آباء المعلوماتية وكاسري الشفرات (أن الآلات ستسمح بتحويل المثقفين إلى ناس عاديين. حيث ستتسلم الآلات زمام السلطة وزمام الشؤون البشرية، بمعنى أن كل فصائل البشر، من دون استثناء قد تورطوا في الفضاء العمومي، بتعبير إدوارد سعيد، الذي كان حكراً على المثقفين بالمعنى المتحدر من البرجوازية الغربية. ولكن يبدو أن إقامة الصلة ما بين قيم الحداثة والأدب الرقمي ظلت عصيّة حتى الآن على معظم المندفعين عربياً ناحية عصر النص العنكبوتي، فما يحدث الآن ليس أكثر من تظاهرة صاخبة ناحية رقمنة النصوص والتجريب في حقل الصورة الافتراضية وإشراقاتها، للحاق بالعصر التكنتروني، باعتماد الوسائط البديلة والوسائط الثورية المعارضة. وفي أفضل الحالات هو لهاث وراء لافتات موت الكتاب الورقي، كالشعار الذي رفعته كاثرين هاريس في كتابها (الثقافة الرقمية: موت ثقافة الطباعة). أي تحقيق نصاب أدبي الكتروني بأقصى سرعة ريادية ممكنة.