تنزع استقالة البابا الصبغة السامية والمفارقة عن شخص الحبر الاعظم، وتقصر صورته في اوساط المؤمنين على رئيس ديني كبير على قدم المساواة مع أعيان الكنيسة. والأثر هذا يخالف ما يحتج به البابا على انه ابرز انجازاته: إرساء الحياة الكنسية على علاقات منتظمة هي موضع شبه إجماع يقر التقاليد القديمة القائمة على السلطة والطاعة وتقدم علاقاتها الداخلية على علاقاتها بالعلمانيين. وذلك في اعقاب الانقسام الذي خلفه المجمع الفاتيكاني المسكوني بين 1962 و1965 في صفوف الكنيسة. فالبابا بنديكتوس السادس عشر التزم نهجاً أقرب الى المحافظة وسعى الى هضم العناصر الجديدة التي أدخلها المجمع على الكنيسة. وفي 1994، اعلن كارول فويتيلا، البابا يوحنا بولس الثاني، أن المنصب البابوي ليس فخرياً. ولكن استقالة جوزيف راتزينغر، أي البابا بنديكتوس السادس عشر سابقاً، في 28 شباط (فبراير) الماضي، هي سابقة من نوعها قد تؤدي الى تربع رأسين على سدة البابوية: البابا الفخري السابق ونفوذه قوي جراء تعيينه 60 في المئة من الكرادلة، والبابا الجديد الذي لم ينتخب بعد. واستقالة راتزينغر قد تقصر دور البابا على رأس الجسم الكنسي من غير أن يكون الآمر أو الحاكم، وتحيل صدارته السامية النافذة الى صدارة معنوية فحسب. وخطوته هذه أسبغت على مرتبة أسقفية روما سمة الحداثة المتسمة وتبديدها السحر أو الاسطورة من العالم وإضعاف مفارقته. ولكن ما الذي حمل بينيديكتوس السادس عشر على الاقدام على مثل هذه الخطوة التي لم تخف عليه آثارها؟ فصول احتضار البابا يوحنا بولس الثاني الطويلة ماثلة في الذهن... والاستقالة ربما تطعن في عصمة البابا المنتخب. ومال راتزينغر الى حسابات منطقية في احتساب ما هو خيرٌ للكنيسة. وهو لم يخف دواعي استقالته وعللها بوهن الجسد والنفس، على رغم ان الكنيسة في عهده رصت صفوفها وخَفَت التنازع بين «التقدميين» و «المحافظين». ولكن لم يكن في مقدور بينيدكتوس تذليل النزاعات بين الكرادلة. ووصمة «الوساخة» على قول، البابا المستقيل، لدى انتخابه في 2005 لحقت بالكنيسة جراء فضيحة الكهنة المعتدين على الاطفال وفضيحة بنك الفاتيكان ومعهد الاعمال الدينية. وتصدي البابا لمثل هذه الملفات جُبه بمقاومة حادة. والخلاف الوحيد بين راتزينغر والبابا يوحنا بولس الثاني نجم عن طلبه محاسبة المتورطين في الاعتداء على الاطفال، وإحباط رعاة الابرشيات مساعيه مستغلين وهن البابا وضعفه. وأماطت «فاتيليكس» (الوثائق المسربة من الفاتيكان) القناع عن شطر من فضائح الفاتيكان. والاغلب على الظن أن التقارير عن الفساد التي أعدها الكرادلة هيرنز وتومكو ودي غيورغي، وقعت وقع الصاعقة على راتزينغر. * مدير مجلة «ميكروميغا»، عن «ليبيراسيون» الفرنسية، 25/2/2013، إعداد منال نحاس