يروى انه خلال المفاوضات التي دارت بين قادة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية طرح رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل فكرة احتمال مشاركة البابا في تلك المفاوضات، فرّد الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين متسائلاً بسخرية وازدراء: «كم هو عدد الكتائب المدرعة التي بأمرة البابا ؟!». كان ذلك السؤال تعبيراً واضحاً عن مفهوم السلطة السائد في العالم، لكن الاحداث التي شهدتها القارة الاوروبية، وبخاصة البلدان التي كانت تدور في فلك موسكو، بعد وصول البابا البولندي كارول فويتيلا الى الفاتيكان، وما نشهده اليوم من انحلال للسياسة والاقتصاد في الحياه المالية، يستوجب اعادة نظر جدية في هذا المفهوم. ليست للفاتيكان وحدات مدرعة، لكنه يملك اكثر من مئة وخمسة وعشرين الف مؤسسة صحية وتربوية واجتماعية منتشرة في انحاء العالم، وحوالى نصف مليون كنيسة وكاتدرائية يشرف عليها اكثر من مليون ومئتي الف كاهن وراهبة. وتقدر قيمة ممتلكات الكرسي الرسولي وتراثه المعماري والفني، نصفها في ايطاليا، بأكثر من الفي بليون دولار. وهي ثروة تنمو باضطراد بفضل الهبات الارثية التي تعطى للكنيسة بمعدل عشرة آلاف سنوياً. مملكة المسيح «ليست من هذا العالم»، لكن مملكة خليفته من هذه الدنيا وفيها، وهي ساحة مشرّعة منذ قرون على الصراع حول السلطة والنفوذ. ولم يعد مستغرباً ان تستقطب اخبار الفضائح الجنسية والفساد المالي والاداري والنزاعات داخل الفاتيكان اهتمام العالم الذي، رغم حدة الازمات الكثيرة والمتنوعة التي تعصف فيه، يتابع بشغف هذا المسلسل المثير الذي تبدأ آخر حلقاته هذا الاسبوع بانعقاد مجمع الكرادلة الذي سينتخب خلفاً للبابا بنديكنتوس السادس عشر بعد استقالته المفاجئة والمثيرة للتكهنات والجدل، بقرار لا تعرف له سوى ثلاث سوابق آخرها منذ نيف وسبعة قرون. مئة وخمسة عشر كاردينالا ينعزلون عن العالم، اعتباراً من اليوم، في دير داخل الحرم الفاتيكاني في «مجمع انتخابي» لاختيار خليفة للبابا راتسينغر الذي غادر روما يوم الخميس الماضي الى المقر الصيفي في كاستيل غوندولفو فيما كانت اقواله الاخيرة تلقي ظلالاً ثقيلة فوق مياه السدة البابوبية المعتكرة: «الملاحقات الأكثر ضرراً التي تتعرض لها الكنيسة اليوم لم تعد تأتي من الخارج، بل من الآثام التي ترتكب داخل الكنيسة». يعتكف راتسينغر الذي بات «بابا فخرياً»، وفي حوزته نسخة وحيدة من التقرير الذي اعدّه ثلاثة من الكرادلة الاوفياء كلفهم اوائل الصيف الماضي التحقيق في فضيحة سرقة اوراقه الخاصة، وقرر عدم الكشف عن محتواه وابقاءه طي الكتمان ليسلّمه بيده الى خليفته الذي تتكاثر التكهنات والتوقعات حول هويته: ايطالي لأن «الكتلة الايطالية» ستلقي بكل ثقلها لاستعادة السدة البابوية... أسود أو آسيوي لأنه قد يساعد على وقف تمدد الاسلام في افريقيا وآسيا... اميركي لاتيني لوقف النزف الذي يتعرض له خزان الكثلكة في العالم لصالح الكنيسة الانجيلية. عسيرة وحساسة جداً هي المهمة التي ستلقى على عاتق من سيقع عليه الاختيار خلفاً لبنديكتوس السادس عشر الذي يتضح يوماً انه لم ينهزم امام الشيخوخة والمرض بقدر ما انهزم تحت وطأة حبائل دوائر النفوذ في الفاتيكان وطوق العزلة الذي فرضته عليه الدسائس والدفاع المستميت عن المصالح الشخصية. لكن المتفائلين بحدوث انعطاف حاسم في اختيار البابا الجديد بين العارفين بالشأن الفاتيكاني قلة ضئيلة. فالصراع على المواقع بلغ اشدّه، والكرادلة الناخبون الذين عيّنوا في العقدين الاخيرين معظمهم من «الإمعّيين واصحاب السير القاتمة»، وفق تعبير كاردينال اميركي عرف عنه انتقاده لأسلوب يوحنا بولس الثاني، وخلفه راتسينغر، في ادارة الشؤون الداخلية للفاتيكان.