اليقين هو الرحم الذي تتخلّق بداخله الكراهية، ومن أفضل نتائج الشك أنه يقوم بتعاهد «الحب» والتسامح مع الآخر المختلف فكراً، ذلك أن اليقين هو بارود التطرف، حينما تعتقد أن رأيك هو الحق المطلق الذي لا صواب غيره، وأن المختلف فكراً ومنهجاً هو الشر المحض الذي تجب منازلته، أو مناصحته، هذا هو الخطأ. وأكثر الناصحين هم من الذين غرقوا في لجج اليقين الزائف فراحوا يبحثون عن المختلف عنهم لنصحه، أو للتضييق عليه سراً وعلناً، لهذا فإن الشك هو البذرة الرئيسية لأي فكرة تسامح بين المختلفين، أن يعلم الإنسان أن كل رأي يحمل في جوفه نسبة خطأ. المشكلة الكبرى في مسألة «المعرفة» أن الجاهل لا يعلم أنه جاهل، فقط بالسؤال الصاعق يمكن أن يفيق من عسل نومه على سرر الجهل، لهذا جاءت الفلسفة بوصفها حالة من «التساؤل» المستمر، أن يغفو الجواب على صوت سؤال، وأن يصحو السؤال على صوت جواب، وهكذا في تحفّز معرفي مستمر، أما الذين يظنّون أن ما يكتبونه هو نهاية إقدام العقول، وذروة تفتّق الذهن البشري فهم لم يكتشفوا بشاعة جهلهم، لأن العالم هو من اكتشف مساحة جهله، فذهب يملأها ما استطاع بأطايب المعرفة، أما الجاهل فهو الذي يبقى على ما هو عليه لمدة خمسين سنة ويظنّ أنه يحسن صنعاً، والجنيد يقول: «الصادق يتقلّب في اليوم أربعين مرة». كل تجمّع بشري ينتج طبقاته، ويقنياته، وأمراضه، وأساطيره، ولا يمكن للأسطورة أن تنمو إلا عبر التواطؤ اللا واعي الاجتماعي، والأساطير تبدأ بقصة وتنتهي بقناعة صلبة ثابتة لا يمكن زحزحتها، والمشكلة - كما يعبر هيراقليطس - أن الناس دائماً «يظنون أنهم يعرفون»، وفي أثينا قديماً تمّ تقديس «البومة» لأنها تبصر في الظلام، لكن من الطبيعي أن تؤمن الجموع بالأساطير، وعلى حد تعبير هيغل فإن الأسطورة «تعبير عن عجز الفكر الذي لا يقيم ذاته على نحو مستقل» من الصعب تحويل كل أفراد المجتمع إلى علماء، لكن من المهم إعلام الجاهل بسعة جهله، والفلسفة والعلوم ليست لكل أحد، وألدّ أعداء الفلسفة هم الدراويش الذين لا يفهمونها ولا يعرفون لها هدفاً لهذا يقول أفلاطون: «الحكمة لا يمكن أن تُعلّم لأولئك الذين لم تلقن أرواحهم السر». لم يكن الشكّ حادثاً أو جديداً، كما أنه لا يعني إلغاء القناعات والمعتقدات، لكنه المفهوم الذي يرطّب صلابة الرأي ليحوله إلى رأي مستساغ بعيداً عن القمع والترهيب، ولعل من أشهر من تحدّث عن نسبية صواب الرأي في التراث الإسلامي الشافعي، حينما قال «إن رأيه صواب يحتمل الخطأ ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب»، وبرغم أن هذه الجملة منتشرة ومكتوبة على جدران المدارس غير أن مضمونها لم يُفعّل على الإطلاق، فلم يحفظوا عن الشافعي إلا رأيه بجلد المتفلسفين بالجريد والنعال! حينما طرح الدكتور علي حرب في كتابه «نقد المثقف» في التسعينيات أن «المثقف العربي أسهم بشكل مباشر في تنمية وتكرير التخلف وفي تكريس التطرف والتعصب والدكتاتورية الفكرية» تحفّظ البعض على نقد المثقف بالذات لأنه «حارس النضال»، لكن الواقع يوماً بعد يوم - ومع ثورة الفضائيات والانترنت - يرسخ تلك النتيجة أكثر من أي وقت مضى، حيث يقوم الآن المثقف بتكرير المطروح اجتماعياً ويظنّ أنه أتى بالعجائب، وما أجمل ثيودورا ويزرمان حينما قال في كتابه الأنيق «تطوّر الفكر الفلسفي»: «إن أخطر أعداء الفلسفة موجودون داخل صفوفها» حيث يحاربون حرية التفكير مستدلين ببراهين أنتجها الفكر الحر، وهذه ذروة الانحطاط. [email protected]