كان المستبد يحرس الخريطة. يضاعف أمراضها لكنه يمنع تقاسمها. حين اقتلعته العاصفة تركها عارية مذعورة. استيقظت كل أنواع المطالب وأزمات الهوية والأحلام الدفينة. سقط حارس القفص الكبير فتقدم دعاة الأقفاص الصغيرة. غياب فرص التعايش في ظل الحرية والمساواة، وفّر لأنصار الطلاق فرصة ذهبية. لهذا تتمزق الخرائط تحت ضربات أبنائها. وتستباح على أيدي المقاتلين الجوّالين. لَعِبَ الظالم على التناقضات وحوّل المكوّنات عبوات تنتظر لحظة الانفجار والانتحار. في بيروت المريضة أقرأ أخبار المنطقة. أسمع بكاء الخرائط وأشم رائحة الأقفاص الصغيرة والأقاليم. إننا نتقدم بخطى ثابتة نحو هاوية أشد هولاً من هاوية الاستبداد والمستبدين. هاوية سقوط التعايش بين الطوائف والمذاهب والأعراق. هاوية السقوط في خيارات لا مكان فيها للآخر الذي لا يشرب من النبع ذاته. تراودني عزيزي العربي رغبة في أن أطرح عليك سؤالاً مزعجاً. هل صحيح أن تلك الخرائط التي علّمونا انها مقدسة وراسخة شاخت وتآكلت؟... وأنها تحتاج دائماً الى مستبد كي لا يعبث المواطنون بوحدتها؟ هل صحيح أن ما قاله المدرّس كان مجرد كذبة رسمية؟... وأن الخرائط الحقيقية هي أصغر من الخريطة التي ورثناها؟ وأننا نخفي الخرائط الحقيقية لأننا نخاف المجاهرة بها ولأننا نتربص ونتحيّن الفرصة السانحة لكشف حدودنا الفعلية، حدودنا الطائفية والمذهبية والعرقية والإثنية؟ وهل صحيح ان بلداننا كانت دائماً مقسّمة لكننا كنا مرغمين على تغطية انقساماتنا بسبب اليد الساحقة للمستبد الحاكم وفريقه؟ هل صحيح اننا كنا نتظاهر بالتسليم بالخريطة الموروثة والإيمان بها وأننا تعلمنا في البيت، وبعد إسدال الستائر، أن لنا خريطتنا التي لا يقيم فيها الآخر ولا يفسدها ولا يهددها؟... وأن الخريطة الحقيقية هي التي تضم من يشبهك الى حد التطابق، ويقرأ في الكتاب ذاته ويحفظ المواويل ذاتها وتتطابق خريطة أحلامه وعداواته مع خريطة أحلامك وعداواتك؟ وأن المدن المختلطة سواء كان اسمها بغداد أو دمشق أو بيروت أو غيرها، لم تكن خيارك إلاّ إذا كنت ابن الأكثرية فيها؟ الأكثرية القادرة على فرض لونها وإرادتها والتي تطالب الأقلية بالتنازل عن لونها وملامحها في مقابل السلامة أو نوع منها؟ وهل صحيح أنك صرت تكره المدينة بعدما تبدّلت النسب السكانية فيها، وتقلّص عدد الأحياء التي تشبهك؟ أكتب هذا الكلام في ضوء جمل قصيرة مخيفة سمعتها في عواصم عدة ويسمعها أي صحافي زائر، إذا ضمِن المتحدث أنها لن تُنشر باسمه. شرح لي مسؤول عربي أن خطر تقسيم سورية قائم وجدي، وأن استمرار المواجهات على أرضها يعمّق التباعد القائم أصلاً بين المكونات. رسم أمامي ملامح خريطة جديدة تنظّم الطلاق بين السنّة والأقليات التي كانت موزّعة في الخريطة القديمة، واعترف بأن تبلور الخريطة الجديدة يستلزم أنهاراً من الدم. سمعتُ من مسؤول آخر أن أهالي جنوب اليمن «لن يقبلوا بما يقل عن زوال الاحتلال الشمالي وعودتهم الى الاستقلال»، ولم يستبعد ايضاً ان يرفض الحوثيون القبول «بما كانوا عليه في خريطة علي عبدالله صالح». وسمعتُ من ثالث ان الجوهر الفعلي لاحتجاجات الأنبار هو «رفض العرب السنّة العيش كمواطنين من الدرجة الثانية في ظل حكم شيعي إيراني الهوى، والمعركة مفتوحة على كل الاحتمالات والأخطار». وسمعت في لبنان ان النائب الحقيقي يجب أن يفوز بأصوات أبناء طائفته أو مذهبه، وأن فوزه بأصوات «الآخرين» يُفقِده صفته التمثيلية الحقيقية. وسمعتُ في القاهرة ان «لا مستقبل للأقباط في مصر غير الهجرة» وأن «فوز الإخوان سيسرِّع مغادرتهم». إننا في الطريق الى الهاوية. إننا في أخطر وضع عربي. في غياب الديموقراطية والمؤسسات والمواطنة والمساواة نشهد محنة الخرائط وأشكالاً من الحروب الأهلية، لا تعِد بغير الفقر والجنازات وأنهار الدم. أنهك الظلم والتمييز الخرائط الموروثة. اعتبرها المغبونون أقفاصاً خانقة. راودهم حلم الاستقالة من شركائهم. راودهم حلم الأقفاص الصغيرة.