قبل أن نبدأ ، لابُدَّ من التذكير بأمر مهم ، وهو أننا عندما نتحدث عن ( الأقليات ) فإننا لا نقصد أقلية عدد ، وإنما أقلية نِسبة ، أقلية تبدأ من الواحد ، وتنتهي بما دون النصف بقليل . الأقلية هنا قد تكون بالملايين ( كما هي حال المسلمين في الهند وفي الصين الذين يتجاوز عددهم مسلمي العالم العربي مجتمعين ) ، وقد تكون الأقلية أكثر فاعلية وحضورا من الأكثرية ، ولكنها تبقى أقلية ؛ لكونها قضية مصطلح ، والمصطلح هنا يقوم بتحديد النسبة بحياد تام ؛ دون أي توصيف في أي اتجاه . عندما قام الإرهابيون بتفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية ، لم يكن عملهم خارج منطق لغة الإرهاب التي نسمعها منهم منذ سنوات ، ولم يكن الحدث على بشاعته هو المشكلة ؛ إذ لم ، ولن، يقف نهر الإرهاب عن جريانه ، ولن نرى نهايته في المستقبل القريب . لقد كانت التأويلات التي رافقت الحدث هي المشكل الأساس الذي يجب التوقف طويلا عنده الأقلية ، في الأغلب ، هي مظنة ضعف ؛ بحكم أن العدد ، في الغالب ، يحمل قوة بذاته . ولهذا ، حرصت النظريات الديمقراطية المعاصرة ، أيا كانت هويتها / توجهاتها ، على أن تحفظ للأقلية حقوقها الأساسية ؛ خاصة وأنها (= الديمقراطية في صورتها المبدئية ) تعني حكم الأكثرية ؛ بمشاركة الأقلية ؛ وبحفظ حق اختيار الأقلية ، خاصة في الشؤون الخاصة بالأقلية ، وعلى نحو أخص ، في القرارات التي يسهل فيها الاختيار ، ولا تحمل طابع الإلزام العام . القوي يستطيع حماية نفسه ، بينما الضعيف يحتاج إلى كثير من الضمانات الحقوقية المدعومة بقوة الرادع الثقافي . ولهذا ، فإن أية أقلية لا بد لها من أن تُحاط بسياج من القوانين الرادعة التي تحميها ، كما لابد أن تُحاط بثقافة معززة بروح التسامح والإخاء التي تتجاوز حدود ما تستطيع القوانين ضبطه من سلوكيات. إن حفظ حق الأقلية ، فضلا عن كونه فرضا إنسانيا خالصا ، هو ، من زاوية أخرى ، حفظ حق الأكثرية ، وضمان لأمنها واستقرارها وازدهارها في مستقبل الأيام . هذا من حيث حفظ الحقوق العامة التي تتناسل تفاصيلها في كل مجال . أما من حيث الحق الأمني ، وهو الحد الأول الذي بانتهاكه لا مجال للحديث عن حقوق ، فهو أحق بأن يفهم في سياق الشراكة المجتمعية ؛ لأن الأمن ، الأمن بكل صوره ، هو كُلٌّ لا يتجزأ ، خاصة في إطار الوطن الواحد ؛ لأن أمن أي فرد ، فضلا عن أية جماعة أو طائفة أو فئة ، هو أمن الجميع ، وهو ، في الوقت نفسه ، أمن الوطن الذي يتحقق من خلاله مستقبل الجميع . إن العالم العربي ، المحكوم بالثقافة العربية ذات المنحى التقليدي ، هو عالم زاخر بالتنوع ، ومن ثم ، هو عالم زاخر بالأقليات من كل نوع ؛ كما يتضح ذلك من خلال قراءة خرائط الأديان وخرائط المذاهب وخرائط الأعراق . ولا شك أن الدول العربية على الأقل من حيث بنيتها العامة ، وكما تتجلى ظاهريا تنتمي إلى منظومة الدولة المدنية الحديثة ؛ الدولة الحديثة كما أفرزها التطور الغربي في هذا المجال . أي أنها ، كما تبدو ، أو كما تدّعي ، أو كما يُفترض فيها ، دُولٌ مدنية حديثة ، تقوم على مفهوم المواطنة الذي يساوي بين جميع الموطنين ؛ دونما تمييز أو استثناء. إذن ، لا مشكلة كبيرة في هذا المجال الحقوقي الذي يخص الأقليات ؛ من حيث طبيعة بُنية الدولة العربية الحديثة . المشكلة تكمن في الثقافة التقليدية السائدة التي تزرع بنفسها، واقعيا، تلك التفاصيل الحقوقية المُفصّلة على ضوء مطامحها في التّحكم ، كما تكمن بشكل أكبر في الممارسات التطبيقية التي يتم التغاضي عنها في أكثر الأحيان . وإذا كانت معظم الحكومات العربية تنزع إلى مفهوم المواطنة ، وتقر بما يستلزمه من مساواة تامة بين المواطنين ، فإن سيادة ثقافة التخلف تقود إلى اختراق هذا المفهوم ، بل وإلى تفريغه من جوهر محتواه ؛ لصالح مفاهيم أخرى ، مفاهيم عنصرية ، لاإنسانية ، متخلفة ، تتضاد حتى مع بدهيات ثقافة حقوق الإنسان التي آمن بها الإنسان منذ فجر التاريخ . عندما تقع جرائم الإرهاب في العالم العربي ، وخاصة ما يقع منها ضد الأقليات ، يعرف المتابعون لتاريخية الفكر الإرهابي من أي منفذ من منافذ الفكر تسلل هذا الوحش الكبير المسمى بالإرهاب . في تقديري أن التخمينات في هذا المجال لا تبعد عن الحقائق كثيرا ؛ بشرط أن تتوفر على مستوى معقول من النزاهة العلمية التي تتجنب التوظيفات الإيديولوجية ، وهو شرط لا يتوفر إلا في القليل . أي أن تحديد انتماءات الجناة في الواقعة الإرهابية ليس صعبا ؛ لأن قراءة الواقعة بكل أبجديتها ليست عملية صعبة ، وإنما تكمن الصعوبة تحديدا في ( المنطلقات ) التي تحكم منطق التأويل. إن منطق التأويل ، أي تأويل ، بالضرورة ليس محايدا ، وهو يكشف حتما عن ( مواقف سيكيولوجية وثقافية وساسية ) من الحدث الإرهابي ، ومن ضحايا الحدث الإرهابي ؛ بأكثر مما يقدم من تفسير أوتوضيح أو ( إخفاء!) . ولهذا لا يمكن عدّ التفسيرات والتأويلات ، فضلا عن التبريرات ، التي تصدر عن أي طرف مجرد وجهات نظر في الوقائع الإرهابية ( أيا كانت صورها ودرجتها !) بل هي تعبير عن مواقف ، ولو بلغة الإيحاء أو التلميح ، أو حتى بلغة تتعمد تشتيت الانتباه عن التأويل الجنائي الصريح . عندما قام الإرهابيون بتفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية ، لم يكن عملهم خارج منطق لغة الإرهاب التي نسمعها منهم منذ سنوات ، ولم يكن الحدث على بشاعته هو المشكلة ؛ إذ لم ، ولن ، يقف نهر الإرهاب عن جريانه ، ولن نرى نهايته في المستقبل القريب . لقد كانت التأويلات التي رافقت الحدث هي المشكل الأساس الذي يجب التوقف طويلا عنده ؛ لأنها هي التي تحمل في طياتها سر الداء العضال الذي يفرز لنا هذا الطفح الإرهابي الذي لا يزال يستعصي على العلاج . كثرت التأويلات ، ولكن يمكن تقسيم أنواع التأويلات التي رافقت الحدث إلى أربعة أنواع ، كل نوع يكشف عن موقف أو رؤية ، لكنها تتفق في أنها جميعا تهرب من توصيف مصدر الداء ، وتحاول أن تلقي بالتهمة على البعيد أو على المجهول . وهذه الأنواع الأربعة تتحدد فيما يلي : 1 التأويلات التي حاولت التخفيف من الحدث بالتعمية على مصدره ؛ بزعم أن الإرهاب الذي يقوم به بعض المسلمين هو إرهاب قد طال المسلمين أيضا . أي أن هناك محاولة تعمية على الإشكالية القبطية بالذات ، وذلك بإدراج هذا الحدث تحت واقع أعم وأشمل ؛ وكأن الحدث كان خارج الزمان المقدس ( = ليلة رأس السنة ) والمكان المقدس ( = الكنيسة ) ؛ مع كل ما يوحي به ذلك من قصد يتجاوز الوقائع المادية إلى حيث الأبعاد الرمزية للطائفة المستهدفة بهذا الإرهاب . كون الإرهاب قد طاول بعض المسلمين لا يعني أن هذه الواقعة أو ما يماثلها ليست في سياق إشكالية خاصة ، إشكالية مرتبطة بالتحولات الدينية التي تجري في إطار جغرافي خاص . إن هذا التأويل يتعمد طمس الإشكالية بدل فحصها وتوضيحها واستبصار عللها ، ومن ثم ، علاجها من جذورها . إنه تأويل يحاول ( التستر ) على استشراء مقولات التقليدية التي تحمل رؤية ( قروسطية ) تجاه الأقليات الدينية التي لا تنتمي للإسلام ، والتي هي ، بطبيعة الحال ، معادية أشد العداء لمفهوم المواطنة الحديث الذي يستمد هويته من مدنية الدولة ، والذي تكوّن في هذا العصر الحديث بالذات . 2 هناك نوع لا يدخل في باب التأويل ؛ بقدر ما يدخل في باب التبرير ، وهو التصريح ، من قِبَل كثير من التقليديين الذين يدّعون الاعتدال ، أن لا مصلحة للإسلام في مثل هذا الإرهاب . وخطورة هذا التصريح تتحدد في أنه يحمل تشريعا مُبطّنا لمثل هذا العمل ؛ فيما لو قدّر ( أحد ما ) أن في مثل هذا العمل مصلحة للإسلام . لا شك أن المصلحة هنا تخضع ل( التقدير !) الخاص الذي يختلف حسب اختلاف زوايا الرؤية . ومن هنا ، ربما يأتي ( وقد أتى !) من يُقدّر عكس ما يَدّعيه دعاة / مُدّعي الاعتدال من التقليديين . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، ففي هذا التبرير إغفال واضح للجريمة ذاتها ولبشاعتها ، وكأن ما حدث مجرد إجراء عملي ، قامت به مجموعة لم تُوفق في تقدير العائد النفعي فقط . إن هذا التبرير ينقل الوعي من تأمل حجم الجريمة وبشاعتها إلى البحث في موضوع آخر مختلف تماما ، وهو البحث عن مصلحة الإسلام . ولتعرف مستوى ما تحمله هذه الرؤية من موقف غير إنساني وغير عادل ، لك أن تتصور ماذا لو أن الطائفة الضحية ( = الأقباط هنا ) هي التي قامت بهذا العمل تجاه طائفة أولئك الذين يحملون مثل هذا التبرير ؛ هل سيقولون حينئذٍ : لم يفلح هؤلاء في تقدير مصالحهم ، أم أنهم سيتحدثون صراحة عن الكيد للإسلام ، وعن الطبيعة الشيطانية الإجرامية التي تتلبس الآخرين المجرمين ؟!. 3 هناك تعبير يصف هذا الحدث الإرهابي ب( الفتنة ) . والتعبير بالفتنة هو نسبة الشر إلى المجهول بالمطلق ، أو إلى كائنات أسطورية لا يمكن تحديدها بوضوح . إن هذا التعبير (= الفتنة ) يُستخدم غالبا ؛ عندما يُراد تبرئة الشركاء في الأحداث ، والقول بأن لا ذنب لهؤلاء ولا لهؤلاء ، وإنما وقعت ( الفتنة ) بينهما ؛ فتقاتلوا ، بينما هم في الحقيقة طيّبون وصالحون وأخيار ، ونياتهم صالحة ؛ لأنها لم تطمع بمال ، ولم يتيّمها حب الجاه ، ولم تتعلق أحلامها وأحلام أتباعها بما دون هذا وذاك من أطماع !. واضحٌ لكل من تتبع تاريخنا ، تاريخ التبرئة والتنزيه والهروب من مواجهة الذات ، أن أخطر ما في التعبير ب( الفتنة ) أنه تعبير بهلواني ، تعبير يؤدي إلى تبرئة الشركاء الحقيقيين في الأحداث ، تبرئة الذين باشروا الحدث بأنفسهم ، تبرئة الذين حرّضوا بألسنتهم وقاتلوا وقتلوا بأيديهم ، في مقابل إحالة التهمة إلى مجهول أو شبه مجهول. هذا التحليل ، أو هذه الإحالة على ( الفتنة ) ، أو هذا الهروب من حقائق الأزمة إلى أوهامها ، يمنع من تحليل المواقف كما هي ، ويُصادر الحق العلمي في قراءة الشخصيات قراءة موضوعية على ضوء ما قامت به من أدوار على مستوى الواقع . أي أن هذا التعبير ليس مجرد تأويل خاطئ فحسب ، وإنما هو أيضا حاجز يقف ضد كل التأويلات ذات الطابع العلمي ؛ لأن منطوقه الضمني يتوفر على تحصين الشخصيات والوقائع ضد كل أنواع التأويلات والتفسيرات التحليلية الفاحصة ، تلك التأويلات والتفسيرات التي تجد مشروعيتها في تفاصيل الوقائع وفي السلوكيات المعلنة للأشخاص . 4 التأويلات التي تتعمد إلقاء التهم على الخارج ، وخاصة على العدو التقليدي في الذهنية العربية (= الغرب عامة ، وأمريكا وإسرائيل خاصة ) ، وذلك لتحقيق هدفين في آنٍ واحد : الأول : إبعاد التهمة ، ومن ثم تحويل توجهات الرؤى التحليلية ، عن كل ما له علاقة بالذات العربوية / الإسلاموية المتنرجسة ؛ لتصبح الذات هي مصدر الصلاح والخير ، بل والنقاء التام ، وأن ما يحدث لها ، أو يحدث بالقرب منها أو في مجالها من أخطاء وكوارث وتأزمات ، ليست أشياء سلبية نابعة من خلل فيها ، وإنما مصدرها الوحيد هو : كيد الأعداء . الثاني : ضخ مزيد من الشحن تجاه الآخر ؛ لقتل كل إمكانات التعايش ، ولوأد كل فرص السلام . فالذين يطرحون مثل هذه التأويلات يدركون أن لا قيمة معنوية لهم بدون الهيجان الجماهيري الذي لا يجد نفسه إلا من خلال ثقافة الكراهية ، وادعاء أمجاد الصمود ! ، أي من خلال صناعة أعداء وهميين ، ومن ثم ، الفخر بصمود وهمي . وبما أن هؤلاء قد ثبت عليهم بمنطق الواقع أنهم لا يستطيعون تقديم تنمية حقيقية ، ولا اجتراح منظومة متطورة لحقوق الإنسان ، ولا صناعة رؤى مستقبلية تتغذى ولو بالأحلام ؛ لم يبق لهم إلا الفخر الكاذب بالأوهام ، في وسط جماهيري تعوّد ، بل وأدمن ، مضغ الأوهام..