مثلما كان «الربيع العربي» رافعة أساسية في وصول الإسلاميين إلى السلطة في أكثر من بلد عربي، فإن مرحلة ما بعد «الربيع العربي» تشهد تراجعاً واضحاً لخطابات الإسلاميين وأيديولوجيتهم وقدرتهم على التأثير وإقناع الشارع العربي. وما أعنيه هنا تحديداً هو أن الإسلاموية كأيديولوجيا سياسية وخطاب فكري وأخلاقي، تشهد تآكلاً متزايداً في قوتها الرمزية والأخلاقية، ليس فقط نتيجة لضعف الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي للإسلاميين منذ وصولهم للسلطة قبل عامين، وإنما أيضا نتيجة لتراجع التأثير المعنوي لفكرة «الخلاص الموعود» التي قام عليها خطاب الإسلاميين وبشروا بها لعقود قبل وصولهم إلى السلطة. ولوهلة، قد يبدو هذا الأمر متناقضاً، حيث من المفترض أن يعكس الصعود السياسي للإسلاميين رواجاً سياسياً وأيديولوجيا لأفكارهم وطروحاتهم، بيد أن قليلاً من النظر والتأمل يكشف مدى التلازم بين الصعود والهبوط، ذلك أن جزءاً كبيراً من وصول الإسلاميين إلى الحكم ارتبط بأمرين: أولهما الحضور والتأثير المجتمعي للإسلاميين على مدار عقود نجحوا خلالها في بناء شبكة اجتماعية وخيرية كبيرة ومتفاعلة مع محيطها الاجتماعي، وثانيهما استثمار الإسلاميين عجز الأنظمة القمعية التي سبقت وصولهم للسلطة وفشلها. وقد كان عدم اختبار أيديولوجيا الإسلاميين وأفكارهم في الحكم بشكل واسع، سبباً لتفاؤل الكثيرين بوصولهم للحكم خاصة، في ظل ما هو معروف عن الإسلاميين من «نظافة اليد» وعدم التورط في قضايا فساد. وقد استثمر إسلاميون كثيرون فشل الأنظمة السابقة وعجزها من أجل تدعيم حضورهم وصورتهم. الآن، بعد وصول الإسلاميين للحكم، بات ممكناً قياس مدى نجاحهم واختبار قدرتهم على إدارة المرحلة الانتقالية التي تمر بها مجتمعاتهم. وهنا، يمكن القول إن ثمة مؤشرات عديدة حول عدم قدرة الإسلاميين على القيام بذلك. قطعا ليس أسهل من إلقاء اللوم على الخصوم، خاصة من بقايا الأنظمة القديمة التي تسعى لإفشال الأنظمة الجديدة، خاصة ذات اللون الإسلامي، كذلك لا يمكن التقليل من حجم الإرث الثقيل لأنظمة الفساد والاستبداد، التي تركت المجتمعات العربية في حالة يرثى لها. بيد أن ذلك كله لا يقلل من مسؤولية الإسلاميين عن الفشل فى إدارة مجتمعاتهم طيلة العامين الماضيين. ففي مصر، كما هي الحال فى تونس، لم يقدم الإسلاميون رؤية جادة وعملية لكيفية إدارة مجتمعاتهم، واكتفوا بتكرار شعاراتهم الأثيرة نفسها حول «النهضة» والتقدم والتنمية. والأكثر من ذلك هو الإصرار على تبرير قصورهم وفشلهم من خلال اتهام معارضيهم ومنافسيهم. بل من المحزن أن يلجأ الإسلاميون إلى الأسلوب والمنهج ذاتهما في التعاطي مع منافسيهم، ففي مصر لم يقم الرئيس المنتخب محمد مرسي بأي جهد حقيقي لإزالة أسباب الاحتقان السياسي والاجتماعي، ويبدو الرجل حتى الآن عاجزاً عن الخروج من تداعيات الأزمة التي خلفها إعلانه الدستوري السلطوي الذي كان قد أصدره في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. ولا تختلف دعوته المعارَضة للحوار عن تلك الدعوات التي كان يطلقها مبارك وحزبه الحاكم، وكانت تَلْقى استهجان «الإخوان» ومعارضتهم. وفي تونس، كان رد فعل حركة النهضة، وزعيمها راشد الغنوشي مفاجئاً، لما يعرف عن الرجل من العقلانية والاعتدال والقدرة على احتواء المخالفين له في الرأي، فقد رفض الغنوشي فكرة استبدال حكومة حمادي الجبالي بحكومة تكنوقراط غير متحزبة، واعتبر أي دعوة فى هذا الشان بمثابة «انقلاب مدني» على حد تعبيره. وبدا أن ثمة انقساماً واضحاً داخل حركة النهضة بين فريق الغنوشي وفريق الجبالي ومن خلفِه نائب رئيس الحركة والقيادي المعروف عبد الفتاح مورو، الذي انتقد الغنوشي وطالب بتنحيته عن زعامة الحركة. وبوجه عام، تمكن الإشارة إلى انحصار المعضلات التي تعانيها الأيديولوجيا الإسلامية بعد الوصول إلى الحكم في أربع رئيسية: أولها الانفصام المتزايد بين الفكرة والتطبيق، أو بين الشعارات والواقع، فجزء كبير من نجاح الإسلاميين طيلة مرحلة ما قبل الربيع العربي كان يقوم على الاستثمار في الواقع المزري الذي عاشته المجتمعات العربية تحت أنظمة الفساد والاستبداد. وقد رفعت الحركات الإسلامية شعارات فضفاضة، مثل: «الإسلام هو الحل» و «حتمية الحل الإسلامي»... وغيرهما، ولم يكن هناك إدراك حقيقي أو تعاط جاد مع حجم المشكلات والصعوبات التي نخرت عظام المجتمعات العربية طيلة عقود، فما إن وصلت إلى الحكم حتى اكتشفت أن الحديث أسهل من العمل، وأن المعارضة أسهل من الحكم، وهو ما لفت إليه الغنوشي فى حوار على صفحات هذه الجريدة قبل شهور. الآن تم رفع الغطاء عن شعارات الإسلاميين كي يكتشف كثيرون مدى خوائها ورومانسيتها وعدم واقعيتها، فحتى الآن لم يستطع الرئيس مرسي تحويل مشروعه ومشروع جماعته الكبير «مشروع النهضة» إلى واقع، ولم ينفذ أياً من تعهداته التي قطعها على نفسه حين خاض الانتخابات الرئاسية الماضية، وقد وصل به الأمر إلى اعتراف بعض قيادات الجماعة، وخصوصاً نائب مرشدها خيرت الشاطر، بأن جماعته ليس لديها تصور كامل لمشروع «النهضة»، وهو أمر لم يَكشف فقط عدم واقعية الطرح «الإخواني» للمشاكل الكبيرة التي تعانيها مصر، وإنما أضر كثيراً بمصداقية الجماعة وقيادتها ورجلها في القصر الرئاسي. ثانيا، التناقض بين الصورة الرمزية والسلوك السياسي للإسلاميين، فعلى مدار عقود رسم الإسلاميون لأنفسهم صورة تكاد تكون أقرب للمثالية، على الأقل في أذهان مريديهم وأتباعهم، ولكن بعد الوصول إلى السلطة بدا حجم الانفصال بين الصورة والسلوك، وذلك بدءاً من مسألة الزهد فى السلطة على غرار ما كان يردد «الإخوان» دائماً «لا نطلب الحكم لأنفسنا»، إلى حد التضحية بالمنصب من أجل حماية الأمة من الفتن، فضلاً عن حديث الغنوشي المتكرر عن أهمية الحرية، التي اعتبرها مقدَّمةً على أي مبدأ آخر، بما فيه تطبيق الشريعة. الآن تراجعت كل هذه المقولات وتحولت زبداً لم يمكث كثيراً بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة. وإذا أضفنا إلى ذلك بعض الأخطاء الفردية التي ارتكبها بعض المحسوبين على التيار الإسلامي، سواء كانوا سلفيين أو «إخواناً» أو غيرهم، فإن ثمة مشكلة حقيقية تواجه الصورة النمطية للإسلاميين باعتبارهم تياراً نقيا وطهورياً، بعد أن أظهروا أنهم لا يختلفون عن غيرهم قولاً وفعلاً. وسوف يردّ أحدهم بأن الإسلاميين بشرٌ يصيبون ويخطئون، وهو قول صحيح لا جدال فيه، ولكنه يجب أن يوجَّه للإسلاميين كي يعرفوا قصورهم، ومن ثم يعترفوا بأخطائهم، بدلاً من حالة الإنكار التي يمارسها بعض قياداتهم الآن. ولسوء الحظ، فقد أصيب كثيرون بخيبة أمل كبيرة من أداء الإسلاميين طيلة الفترة الماضية، وبدلاً من أن يصبح «المشروع الإسلامي» (وذلك بغض النظر عن كنه هذا المصطلح) أداة للتقارب والتحاور، أصبح سبباً في الخلاف والشقاق الذي يقسم المجتمعات العربية حالياً. ثالثا، معضلة التوفيق بين السياسة والدعوة وبين ما هو ديني وما هو دنيوي، فثمة فرق كبير بين الداعية والسياسي، وبين رجل الدين ورجل الدولة، وبين الشيخ والرئيس. والأمر هنا لا يتعلق بالجدل العقيم في ما يخص العلاقة بين الدين والدولة، أو طرح العلمانية، وإنما بمسألة الأهلية والكفاءة والقدرة، وهي بالمناسبة شروط شرعية معتبرة ولها أسانيد كثيرة في القرآن والسنة ووضَّحها فقهاء كثيرون، كالماوردي وابن تيمية وابن القيم فى باب السياسة الشرعية. وللتوضيح، فإن الرئيس مرسي يبدو ممزقاً بين أن يكون داعية ورئيساً، حاكماً ومحكوماً، شيخاً وزعيماً، وهي حال كثير من القيادات الإسلامية التي ظهرت على الساحة طيلة العامين الأخيرين وفقدت الكثير من شعبيتها وصورتها وحضورها الديني بعد انخراطها في السياسة، فلا هم بقوا على حالهم دعاة وهداة، ولا هم أصبحوا محترفي سياسة ذوي قدرة وكفاءة. رابعاً، معضلة الانتقال من العمل الأهلي الخيري إلى العمل السياسي الاحترافي، أو معضلة التحول من عقلية الجماعة أو الفئة والطائفة إلى التفكير بحجم وسَعَةِ الأوطان والمجتمعات، فمن جهة ثمة فارق كبير بين التفكير والعمل على مستوى الجماعة (المستوى الجزئي أو المايكرو) والتفكير والعمل على مستوى الوطن الكبير (الماكرو)، فعلى سبيل المثال: تمتلك جماعة «الإخوان» ثقافة فريدة فى تنظيم الحملات الأهلية الخيرية على مستوى الحي والمنطقة، وربما المحافظة، ولديها قدرة على التعبئة والحشد قائمة على معايير الانتماء الديني والأيديولوجي، ولكنها تفتقد القدرة على إدارة بلد متعدد ومتنوع ومتشعب، وأحياناً متناقض الاتجاهات والتوجهات. بكلمات أخرى: تفتقد الجماعة لقيادات قادرة على رسم وصنع سياسات دولة بحجم مصر وعمقها وتعقيدها. ومن جهة ثانية، لا يزال كثير من الإسلاميين أسرى تنظيماتهم وتنشئتهم الأيديولوجية الضيقة، ولم يستطيعوا التخلص من ثقافة التنظيم القائمة على معايير السمع والطاعة والولاء والبيعة إلى ثقافة الانفتاح والتدافع القائمة على المنافسة والحوار والكفاءة والأهلية. ومن جهة أخيرة، يخشى الإسلاميون أن يعيدوا التفكير فى مقولاتهم وشعاراتهم حتى لا يفقدوا القدرة على التحكم وإدارة تنظيماتهم، وهم بذلك يضحون، ربما من دون قصد، بالهدف الأسمى، وهو مصلحة الأوطان، من أجل حماية مصالح التنظيم والطائفة، وهو ما يمثل خطراً حقيقياً عليهم وعلى مشروعهم الذي بدأ فى التآكل معنوياً وأخلاقياً. وتبقى ملاحظتان هامتان، أولاهما أنّ تراجع أيديولوجيا الإسلاميين لا تعني بالضرورة اختفاءهم من المشهد السياسي، فالإسلاميون في النهاية يمثلون حركة اجتماعية ذات خصائص طبقية وسوسيولوجية معينة، وما دام الحاضن الاجتماعي موجوداً فالمشروع وممثلوه سيظلون موجودين. ثانيتهما، أن غياب الأطروحات الأيديولوجية والسياسية البديلة يصب في الأساس فى إطالة أمد المشروع الأيديولوجي للإسلاميين حتى وإن تراجعت قدرته التأثيرية. كاتب وأكاديمي مصري، جامعة دورهام - بريطانيا twitter@khalilalanani