بقدر ما حمل «الربيع العربي» الإسلاميين إلى سدة الحكم، بقدر ما بتنا في حاجة إلى إعادة النظر والتفكير في المسألة الإسلامية بطريقة تتجاوز منهجي الهجاء والإطراء اللذين شكّلا وعينا طيلة العقود الماضية. وبما أننا دخلنا زمن «الصحوة العربية»، على نحو ما بشرّنا به الدكتور زياد الدريس، فإن ثمة حاجة ملحة لطرح هذه المسألة للتفكير العقلاني بعيداً عن المواقف الإيديولوجية أو الشخصية من هذا الفصيل أو ذاك. فقد عشنا عقوداً نرى الإسلاميين إما «شراً مستطيراً» يتربص بالبلاد والعباد وذلك وفق منطق أهل السلطة، وإما «ملائكة لا يخطئون» وفق منظور أتباعهم وأنصارهم. وإذا كان من المبكر إصدار تقييم أو حكم نهائي على حال الإسلاميين في مرحلة ما بعد «الربيع العربي»، إلا أن ثمة عدداً من القضايا والنقاط التي قد تمثل بداية لنقاش موضوعي وجاد حول هذه المسألة. ولعل نقطة الانطلاق في مناقشة هذه القضايا هي انتقال الإسلاميين من المعارضة إلى السلطة وما يترتب عليه من تحولات وتغيرات حتمية طاولت الإسلاميين سواء في لغة وبنية خطابهم الأيديولوجي، أو في هياكلهم وتفاعلاتهم الحركية والتنظيمية. وهنا سيقتصر الحديث عن تحولات الخطاب وبنيته وتفاعلاته، وهو ما يمكن الإشارة إليه عبر أربع ملاحظات أولية بعضها قد بدأ فعلياً في حين لا يزال البعض الآخر في طور التفاعل والتشكّل. أولاً: الانتقال من «المطلق» إلى «النسبي» (أو من المقدس إلى المدنس) في خطاب الإسلاميين. فقد ابتعد كثير من الإسلاميين العرب، بمن فيهم السلفيون الجدد، من خطاب «الحتمية التاريخية» (أو الخلاص النهائي بحسب وصف فهمي جدعان) إلى خطاب الموازنات والمواءمات القائم على مراعاة الظروف التي هي بطبيعتها نسبية ومتغيرة. فعلى سبيل المثال عندما خاض حزب «النور» السلفي الانتخابات في مصر لم يعد الناس بالجنة والحور العين على غرار ما يفعل معتنقو «السلفية الجهادية»، إنما وعدهم بإصلاح الأوضاع الاقتصادية والتعليم والصحة ومحاربة الفساد ... إلخ. ربما لجأ بعض مرشحي الحزب إلى استخدام «الخطاب الديني» في دعايتهم الانتخابية، بيد أن ذلك لا يرقى إلى مستوى التعميم ولم يصل إلى حد «المطلق». في حين كان هذا الملمح أكثر بروزاً في حالة حزب «الحرية والعدالة» التابع لجماعة «الإخوان المسلمين» والذي لم يستخدم شعاره الأثير «الإسلام هو الحل» واستبدله بشعار دنيوي (أو زمني بلغة الحداثيين) محض بعنوان «نحمل الخير لمصر». «تنسيب» الخطاب الديني لدى الإسلاميين ليس مرده فقط الحالة الثورية التي تمر بها المنطقة العربية والتي أدت إلى إعادة تشكيل الوعي لدى الجماهير، وإنما أيضاً إدراكهم لطبيعة اللعبة السياسية والتي تنطوي على حسابات عقلانية محضة بعيداً عن الأيديولوجيا والخطاب الدوغمائي المطلق. ملمح آخر لهذه النسبية «اللغوية» يتمثل في الميل المتزايد لدى الإسلاميين للابتعاد، ولو جزئياً، عن مفردات الخطاب الدعوي واقتناء مفردات الخطاب السياسي أو الانتقال من (لغة الدين) إلى (لغة السياسة)، على الأقل في المجال العام. لذا ليس مستغرباً أن تحل مفردات مثل التوافق، الحوار، المصالح، المشاركة، الانتخابات، محل مفردات كالحلال والحرام، الدعوة، الجماعة، الوجوب والمنع... إلخ لدى سياسييّ الإسلاميين. وقد يرى البعض أن استبدال المفردات قد لا يعكس تحولاً فعلياً في المواقف الأيديولوجية للإسلاميين، بيد أن مجرد تكرارها واستخدامها بغزارة في الفضاء الإسلامي، بخاصة السلفي، يعد تحولاً نوعياً خاصة في ظل ما يعتقده البعض حول البنية المغلقة للخطاب السلفي. أما الملمح الأخير لهذه النسبية فيتعلق بالمظهر أو «النسبية الشكلانية - الطقوسية». وهي مسألة على رغم رمزيتها الشديدة لكنها تعكس كيف بات يفكر الإسلاميون بأنفسهم وبمظهرهم أمام الآخرين. فكثير من الإسلاميين، بخاصة السلفيين، لم يعودوا متقيدين بالزي التقليدي في المجال العام (الجلباب وغطاء الرأس). في حين يرتدي معظم نوابهم داخل البرلمان أفضل السترات وأربطة العنق، في حين لا يمانع بعضهم في الظهور في البرامج الفضائية والحوارية مع مذيعات وهو منمّق ومكتمل الحُلية. الملاحظة الثانية تتعلق بانتقال مركز «الفعل» الإسلامي من المسجد إلى البرلمان بكل ما يحمله ذلك من دلالات ومعان واقعية ورمزية. فالصراع الآن لم يعد يدور حول الشرعية الدينية أو من يحق له الحديث باسم الدين، وإنما حول الشرعية السياسية ومن يحق له أن يمثل الناس ويتحدث باسمهم في المجال العام. وهو تحول ربما قد لا يلحظه كثيرون ولكنه على درجة عالية من الأهمية من عدة وجوه. فمن جهة هناك فارق كبير بين «فضاء» المسجد و «فضاء البرلمان». فالأول هو فضاء أيديولوجي وتعبوي بامتياز ولا يخضع لأية قواعد للمراقبة أو المراجعة، في حين أن الثاني هو فضاء «رقابي» بالأساس ويخضع للمحاسبة والمراقبة وأحياناً العقاب. لذا فإن ما يُقال على المنبر قد لا يصلح تحت قبة البرلمان. والمسألة هنا لا تتعلق بازدواجية الخطاب والمواقف، بقدر ما ترتبط باختلاف المقام والمقال، وهنا يمكن تسكين واقعة «رفع الأذان» التي قام بها النائب السلفي ممدوح إسماعيل ونهره عليها رئيس المجلس «الإخواني» الدكتور سعد الكتاتني. ثانياً إذا كان «النص» هو مصدر القوة والتأثير في المسجد، فإن الفعل السياسي والرقابي والتشريعي هو مصدر القوة داخل البرلمان. وهو ما يعني الانتقال من عالم «الشعارات والكلمات» إلى عالم «الأفعال والنتائج». وأخيراً فإن جمهور «المسجد» ليس هو ذاته جمهور «البرلمان». فالأول مرجعيته هي الشيخ أو الداعية بينما الثاني مرجعيته هي القانون والدستور. وهنا تصبح المصالح، وليس الإيمان والتقوى، هي الفيصل ومصدر الثواب والعقاب لهذا العضو أو ذاك. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث أخيراً حين قام حزب «النور» السلفي بفصل أحد أعضائه ونوابه في البرلمان (أنور البلكيمي) بسبب كذبه وخداعه للمواطنين مما أساء لصورته ولصورة حزبه. الملاحظة الثالثة تتعلق بما يمكن أن نطلق عليه نهاية «التراتبية الدينية» في المجال العام وما يترتب عليها من سلطة اجتماعية وتجليّات ثقافية. وهي مسألة ترتبط بتراجع «المقدس الوضعي» لدى كثير من الشعوب العربية بسبب انتهاء الاحتكار المعرفي والمعلوماتي. وهي ظاهرة زادها «الربيع العربي» بروزاً حيث انتهت أسطورة تقديس الأشخاص والأفكار ولم يعد أحد فوق النقد. وهي ظاهرة طاولت معظم المجتمعات العربية التي شهدت ثورات أو انتفاضات، حيث سقط كثير من الرموز الدينية والسياسية سواء بسبب مواقفها الفكرية والإيديولوجية من الثورات أو بسبب انتهاء صلاحيتها الفكرية. ولعل هذه إحدى ثمار الثورات العربية التي فتحت كثيراً من الصناديق المغلقة ورفعت «الهالة» عن كثير من الشخوص والقضايا التي لم تكن قابلة للنقاش في الماضي. وهي ظاهرة وإن كانت مخيفة أحياناً كونها تزلزل كل ما هو ثابت وتضرب في عمق الأطر المرجعية للمجتمعات، إلا أن أحد فوائدها أنها تعيد رسم الأوزان الاجتماعية والسياسية للأشخاص والأفكار على أساس المعرفة والكفاءة والقدرة وليس عبر أدوات التجهيل والثقة والطاعة. ونحن هنا نتحدث عن المجال العام بالأساس وليس الديني الذي ربما لا يزال يحظى ببعض من هذه التراتبية داخل الفضاء التقليدي. بكلمات أخرى، ما دام الشيوخ والدعاة (الإسلاميون) ارتضوا دخول الفضاء العام وممارسة السياسة، فلم يعد هناك مجال للحديث عن شرعيتهم وردائهم الديني. ويمثل الشاب نادر بكار، المتحدث الرسمي باسم حزب «النور»، حالة واضحة لنهاية هذه التراتبية الدينية. فعلى رغم صغر سنه (29 سنة) إلا أنه يحظى باحترام ملحوظ سواء داخل الصف السلفي أو خارجه وقد تجاوز حجم المشتركين في صفحته على موقع «فايسبوك» ثمانين ألف شخص. في حين كان لافتاً أن يقوم بكار بالإعلان عن فصل النائب البلكيمي من تلقاء نفسه قبل الرجوع إلى الهيئة العليا لحزب «النور» وذلك بحسب ما أوردته الأخبار. أما الملاحظة الأخيرة، والمهمة، فهي تتعلق بالتنافس (إن لم يكن الصراع) بين الإسلاميين أنفسهم. وإذا كان مثل هذا الصراع غير جديد، فإن الجديد أنه انتقل في شكل واضح وعلني من المجال الديني إلى المجال العام. فالآن يسعى كل تيار إسلامي إلى توسيع مساحته في المجال العام (البرلمان، الفضائيات، الإنترنت، المجتمع المدني، إلخ) على حساب الطرف الآخر. وقد شهدنا بعضاً من تجليّات هذا التنافس والصراع في الانتخابات التي أجريت أخيراً في أكثر من بلد عربي (مصر، الكويت، وربما ليبيا واليمن قريباً). ولعل اللافت في هذا التنافس أنه لم يعد ينطلق من خلفية أيديولوجية أو عقائدية وإنما من مصالح سياسية وبراغماتية محضة. فعلى سبيل المثال لا يوجد اتفاق حتى بين «الإخوان» والسلفيين في مصر حول المرشح الرئاسي الذي يجب دعمه في الانتخابات المقبلة. في حين يسعى كل طرف لدعم المرشح الذي يرى أنه الأقرب لتحقيق مصالحه فكرياً وسياسياً وأيديولوجياً. والأهم في ما يتعلق بصراع الإسلاميين في ما بينهم أنه لم يعد مرتبطاً بأسلمة المجتمع أو الدولة على نحو ما كان يحدث في الماضي (كالصراع المرير بين «الإخوان» و «الجماعة الإسلامية» أو جماعة «الجهاد» طيلة السبعينات والثمانينات)، وإنما حول إقامة دولة ديموقراطية حديثة على الأقل من الناحية الشكلية. وعليه، فإن النتيجة التي يمكن استخلاصها من هذه الملاحظات الأولية أنه كلما انخرط الإسلاميون في المجال العام، كلما ابتعدوا عن الأيديولوجيا وأصبحوا أكثر واقعية وعقلانية، ويبدو أنها «غواية» السلطة التي لا تُقاوَم. * كاتب وأكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا. [email protected]