تفترض المرحلة الحالية والقادمة في الكثير من البلدان العربية، إن لم يكن كلها، حل «الإخوان المسلمين» بشكلها الذي عُرفت به على مدار العقود الماضية وانتقالها إلى حزب سياسي واضح الملامح (وليس إنشاء حزب تابع لها مع الإبقاء عليها كما هي في اكثر من حالة). ودفعاً لأي التباس ليس المقصود هنا الدعوة إلى التخلص من الإسلاميين، لا بشكل مباشر أو مبطن، لأن في هذا نزعة إقصائية غير ديموقراطية أولاً، ولأنه غير ممكن عملياً حتى لو أراد خصومهم القيام بذلك. بل المقصود هو تغيير شكل اندماج الإسلاميين في التسيس الوطني، وانخراطهم فيه، والاندراج في الآليات والوسائل السياسية المتوافرة الآن في الحقبة الديموقراطية، والتخلي عن الآليات والوسائل التي تبناها الإسلاميون في حقبة ما قبل الديموقراطية. هناك ثلاث ضرورات تبرر وتستدعي الدعوة إلى حل جماعة الإخوان المسلمين وتحولهم إلى أحزاب سياسية وطنية في بلدانهم تشتغل ضمن السيادة الوطنية، وتخضع لما تخضع له بقية الأحزاب السياسية: الأولى ضرورة وطنية، والثانية ضرورة إقليمية ودولية، والثالثة ضرورة تنظيمية. هذه السطور تتناول جوانب الضرورة الوطنية التي تتطلب في حقبة الربيع العربي وما بعدها تخلي الإخوان المسلمين عن الصيغة الغائمة التي وسمت شكل حراكهم السياسي والثقافي خلال العقود الماضية، وفي مقالين لاحقين سوف يتم تناول جوانب الضرورتين الأخريين. في مرحلة الديموقراطية والانتخابات، أو حيث تتيح الظروف القيام بذلك أو جزء منه (كما في مصر وتونس وليبيا والمغرب والأردن واليمن والجزائر والسودان وموريتانيا) يمثل الحزب السياسي الآلية الأساسية والوحدة المركزية للعمل السياسي، وهو الترجمة العملية والسياسية لأية أيديولوجيا تطرح نفسها على المجتمع كمنقذ ومخلص له من مشكلاته. الحزب السياسي هو الذي يعرض على الجمهور برنامجه السياسي والذي على أساسه يطمح لأن يقود المجتمع والبلاد، ومن خلاله يستطيع الجمهور أن يحكم على الأيديولوجيا أو البرنامج السياسي الذي يتبناه الحزب. بقية الآليات والجمعيات وأشكال المجتمع المدني تعمل على تعزيز الحياة الديموقراطية والحد من تغول السلطة، والتأثير في الأحزاب، وتأييد قضايا محددة، وسوى ذلك، لكنها ليس هي الآليات التي يتم توسلها للوصول إلى السلطة. في المرحلة الحالية، عربياً، يشكل الإخوان المسلمون حزباً يشارك في العمل السياسي ثم يختبئون خلفه، ويتركون مسافة «آمنة» بينهم وبينه ليتبرأوا من أخطائه، ويتبنوا نجاحاته في الآن ذاته. هذا يعني التهرب من المحاسبة والمسؤولية عن الأخطاء التي هي سمة العمل السياسي والتعلم منها (بل التخلي عنها وعدم الإقرار بالمسؤولية)، وبالتالي محاولة البقاء في مربع «التطهر السياسي» وهو ما يعكس توتراً داخلياً وعدم حسم في الخيارات. لكن الأهم من ذلك، من زاوية «الضرورة الوطنية»، هو استمرار تلك المنطقة الغامضة والرمادية بين الحزب والجماعة حيث تضيع المسؤوليات ويصعب تطبيق المحاسبة ومعرفة نسبة الأخطاء إلى فاعليها ضمن سيرورة البناء الوطني. المشكلة في الإبقاء على الشكل التقليدي ل «جماعة الإخوان المسلمين» في وضع سياسي ديموقراطي مفتوح يسمح للإخوان المسلمين بالتحول إلى حزب سياسي يبقي على الشكوك العميقة إزاء النيات الحقيقية للجماعة. المسوغ الوحيد الذي قد يمنح شرعية لبقاء «الجماعة» بعد إنشاء «حزب» لها هو أن تتحول وظائفها كلياً إلى أشكال أخرى لا علاقة لها بالسياسة، أي أن تصبح جمعية من جمعيات المجتمع المدني، تؤيد الحزب الذي أنشأته وتخضع له، لا أن يخضع لها. طالما ظلت علاقة الحزب بالجماعة (مثل حزب العدالة والتنمية في مصر، أو جبهة العمل الإسلامي في الأردن) علاقة تبعية، علاقة الابن بالأب، فإن تقدم ونجاح العملية السياسية على المستوى الوطني بشكل عام يظل بطيئاً ومحفوفاً بالشكوك. ومن اهم الجوانب المقلقة إن لم نقل الخطيرة في علاقة الحزب بالجماعة وانعكاسات ذلك على الواقع الوطني والعلاقة مع بقية الطيف السياسي يتمثل في السلطة الروحية والسياسية للمرشد العام للإخوان المسلمين في مصر، أو المراقب العام للجماعة في كل بلد يكون لها فيه حزب، أو لرئيس الحركة (كما في تونس مثلاً، حيث سلطة الغنوشي مقابل سلطة الحكومة التي تسيطر عليها «النهضة»). ففي كل هذه الحالات ثمة ازدواجية في قيادة «التيار الإسلامي» المشارك في العملية السياسية بحيث لا تطمئن الأحزاب الأخرى إلى مدى عمق التوافقات التي تصل إليها مع الحزب الرسمي، بخاصة مع حرص الجماعة والحزب على الإبقاء على «مسافة آمنة» بين الإثنين. أحد جوانب خطورة فكرة «المرشد العام» أو «الأب الروحي»، كما هي حالة محمد بديع في مصر، أو راشد الغنوشي في تونس، أو حسن الترابي في السودان، تكمن في توفيرها بيئة ينزلق فيها التسيس الإسلامي نحو النموذج الإيراني الذي يرقّي «آية الله» إلى رتبة عظمى فوق الجميع وإلى مرتبة تكون محصنة أو شبه محصنة ضد النقد السياسي بسبب اختلاطها واحتمائها بالديني بشكل أولي ونهائي. الإبقاء على «جماعة الإخوان المسلمين» في خلفية «الحزب» الذي يمثلها يكبل هذا الحزب ويكبح إبداعاته، والأهم على مستوى «الضرورة الوطنية» يحرم الأوطان والاجتماع السياسي فيها من ترسيخ وتكريس التوافقات والتنازلات التي تستقر عليها الأطراف والأحزاب ومن ضمن ذلك التنازلات البراغماتية التي يقدمها «الحزب الإسلامي» نفسه نتيجة احتكاكه بالواقع الوطني وبالمشكلات على الأرض. تظل «الجماعة» في هذه الحالة تشكل «خط رجعة» للحزب وهذا لا يساعد مرة أخرى على تأسيس البنى الديموقراطية والبناء عليها، لأن الشكوك تظل عميقة، والتنازلات المقدمة من الإسلاميين يمكن التراجع عنها، أو حتى سحبها من قبل الجماعة الأم. وما لا يقل عن ذلك سوءاً هو إنتاج خطابين إسلامويين في السياسة متوازيين، واحد ينطق به الحزب، وآخر تنطق به الجماعة. ولأن خطاب الحزب يكون اكثر تسيساً وبراغماتية بخاصة إن وصل إلى الحكم فإن ذلك سوف يُرى من قبل الجماعة على انه تقديم تنازلات تدمر صورة «الجماعة» مما يضطرها لتبني خطاب متشدد بهدف تعويض خسارات الخطاب المعتدل للحزب. والشواهد على هذه المسألة اكثر من أن تُحصى، وتكفي الإشارة هنا إلى موقف المرشد العام في مصر من إسرائيل، وموقف الدولة المصرية التي يقودها حزب الإخوان من اتفاقيات كامب ديفيد والعلاقة مع إسرائيل. وهذا كله ناتج من تمسك الجماعة بالاشتغال بالسياسة التي هي وظيفة الحزب، وتمسكها في أن تظل فوق الحزب. معنى ذلك، وعلى مستوى «الضرورة الوطنية»، أن الخيوط التي تبقى تشد الحزب، حزب الجماعة، إلى جماعته الأم عبر السيطرة والتبعية والتردد إزاء اتخاذ مواقف ريادية أو توافقية على المستوى الوطني، تشل كتلة الوسط الوطني وتعيق من تشكلها، وهو التشكل الذي ربما يمثل الركيزة وحجر الأساس لأي تسيس وطني عميق وناجح ويؤسس لديموقراطيات راسخة. على الإسلاميين في كل البلدان التي يمارسون فيها حرية تشكيل الأحزاب والمشاركة في الانتخابات بل والفوز فيها أن يملكوا الجرأة لإنهاء الازدواجية السياسية التي يمارسونها في أوطانهم، ويعملوا إما على حل الجماعة الأم التي تقف خلف الحزب الذي يشكلونه، أو الواجهة السياسية التي يختبئون خلفها. وهذا يدمجهم بشكل تام في النسيج السياسي الوطني، ويطمئن الأطراف إزاء نواياهم، فضلاً عن انه يطورهم ويعمق من تجربتهم، ويجعلهم يواجهون الواقع بشكل مباشر ويُنهي سيكولوجيا الهروب إلى الخلف، إلى دفء الأيديولوجيا والشعارات، عندما يواجهون معضلات بالغة الصعوبة، وحيث تبقى الفكرة المدمرة التي تقول «إننا نمر في مرحلة ظرفية» هي المسيطرة على التفكير السياسي الإسلاموي، وتدمر معها كل جسور الثقة مع الآخرين الذين من حقهم أن يظلوا يتساءلون عن «المرحلة النهائية» التي تستولي على العقل السياسي الإسلاموي. الحزب السياسي، حزب الإخوان المسلمين، هو الذي سوف يكشف للإسلاميين وعبر غنى وربما عبقرية السياسة أن العالم والمجتمعات والبلدان تمر من مرحلة ظرفية إلى مرحلة ظرفية أخرى، وأنه ليس هناك «مرحلة نهائية» إلا في عقول الطوباويين، وأن كل ما هو مطلوب هو إدارة هذه المراحل الظرفية بأكبر قدر من النجاح، أي خدمة الناس، وبأقل قدر ممكن من الخسائر. المقالة القادمة تناقش فكرة حل «جماعة الإخوان المسلمين» كضرورة إقليمية ودولية. * أكاديمي فلسطيني [email protected]