هل من مكان ل «صحافة السلام» اليوم ضمن المشهد الإعلاميّ اللبنانيّ، في ظلّ النزاعات السياسية والطائفية التي تنعكس مباشرة على مختلف الوسائل الإعلامية المحلية؟ الجواب البديهيّ أنّ ذلك شبه مستحيل، فافتتاحيات الصحف، كما مقدّمات النشرات الإخبارية، تضجّ ب «البروباغندا» السياسية، خدمة لمصالح مالكي هذه المؤسسات من مختلف الأحزاب والتيارات. وغالباً ما ينجرف كثيرون من الصحافيين اللبنانيين وراء السبق الصحافي خلال النزاعات الداخلية، فيضيعون بوصلة المبادئ الأخلاقية للمهنة، ويصبحون جزءاً من الإعلام «الحربيّ» الذي يؤدي دوراً كبيراً في تأجيج المشاكل بين مختلف الأطراف المتنازعة محلياً. لكنّ الأمل لم يُفقد نهائياً بعد، فما زال هناك صحافيون يتمسّكون بقيم السلام واحترام حقوق الإنسان، وهم ينضوون اليوم تحت راية مجموعة «صحافيو السلام» (Peace Journalists)، بالتعاون مع نادي MasterPeace العالميّ. من الفكرة الى التطبيق البداية كانت مع الصحافية والناشطة المدنية فانيسا باسيل، التي عملت في الصحف اللبنانية فيما كان يراودها شعور بعدم الانتماء إلى النمط «الحربيّ» في الكتابة. فهي كانت تبحث دائماً عن المواضيع الاجتماعية والأفكار السلمية للتعبير عنها، بما لا ينسجم أحياناً كثيرة مع السياسة المعتمدة في الوسائل الإعلامية المحلية. وبعد البحث عن التجارب العالمية في هذا المجال، استطاعت باسيل التوصّل إلى مفهوم «صحافة السلام»، وهي تعمل اليوم على نشره بين الصحافيين الشباب من خلال ورش العمل والمؤتمرات، كما تدير نادي MasterPeace في لبنان. تعرّف باسيل صحافة السلام بأنّها تُختصر بطريقة اختيار الصحافي المواضيع التي يريد معالجتها والأسلوب الذي يكتب به، وهي ترتكز على تحليل النزاع وتحويله سلميّاً. وطرح هذا المفهوم عالمياً من خلال تجربة أحد الصحافيين، وهو جايك لينش الذي غطّى الكثير من النزاعات عبر دول العالم، ليصل أخيراً الى تقديم تجربته حول كيفية تغطية النزاع في شكل سلميّ عبر كتاباته وإدارته «معهد الدراسات حول السلام والنزاعات» (CPACS). أمّا المبادئ التي ترتكز عليها صحافة السلام، وفق باسيل، فهي: أن تكون لدى الصحافيين خلفية عن النزاع ويكونوا واعين لأبعاده، وأن تكون التغطيات والكتابات موجّهة نحو الشعب ومطالب المواطنين، وأن يبحث الصحافيون عن الوقائع والحقائق، بالإضافة الى التركيز على الحلول المقترحة للنزاعات والمبادرات السلمية. وفي مقارنة مع واقع الإعلام اللبنانيّ، يتبيّن أنّ «صحافة الحرب» هي الطاغية من ناحية مخالفة مبادئ «صحافة السلام». وفي هذا الصدد، توضح باسيل أنّ الكثير من المؤسسات الإعلامية يهدف الى تأجيج النزاع وزيادة نسبة العنف خلال أوقات النزاعات. وكذلك، فإنّ الإعلام في لبنان اليوم موجّه نحو النخبة، ويقصد «البروباغندا» أكثر من الوقائع. وبدل التركيز على الحلول وكيفية الخروج من الأزمات، تكون الأفكار الطاغية مرتبطة بالأطراف الرابحة أو الخاسرة في النزاع. إشكاليات صحافة السلام الكثير من التساؤلات يُطرح حول موضوع «صحافة السلام». فهل يمكن الصحافيّ أن يحافظ على سلمية التغطية أو الكتابة حين يتعرّض بلده لاعتداء خارجيّ معيّن؟ وهل يبقى هذا المفهوم نظرياً فيما يصعب تحقيقه واقعياً مع تعرّض الصحافيّ لضغوط من إدارة المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها بغية اتباع أسلوب معيّن يخدم مصالحها؟ تؤكد باسيل وجود أجوبة، ضمن إطار «صحافة السلام»، لأي إشكالية يواجهها الصحافيّ. فحين يتعرّض لبنان، على سبيل المثال، لاعتداء خارجيّ، من واجب الصحافيّ أن يغطّي الوقائع، ولكن بدل العمل على تأجيج الوضع النفسيّ للجمهور، يمكنه أن يوجّه الأنظار الى مبادرات السلام القائمة. كما يستطيع الصحافيّ الإضاءة على المطالب الإنسانية بدل التركيز حصراً على مواقف السياسيين. أمّا بالنسبة إلى الضغط الذي يتعرّض له الصحافيّ من جانب إدارة المؤسسة التي يعمل فيها، فتشير باسيل الى أنّ صحافة السلام جزء لا يتجزأ من المبادئ الأخلاقية للمهنة. وبالتالي، فإنها لا تتناقض مع عمل أي مؤسسة إلا إذا كانت لديها أجندة خاصة للتشجيع على فتنة داخلية. وهذا ما تشدّد عليه الصحافية فاتن جباعي أيضاً، إذ ترى أنّ صحافة السلام «ليست نظريات فحسب»، وإنما تتجلّى في حسن استخدام هامش الحرية الذي يملكه كلّ صحافي لمعالجة قضايا تهمّ الشعب والعمل على تعزيز ثقافة السلام في بلده. وعلى رغم ذلك، تؤكد جباعي أنّ التحدّي الذي يواجهه الصحافيون كبير، خصوصاً عند التطرّق إلى المواضيع السياسية والأمنية. إعادة الثقة بالإعلام الهدف الأساس الذي يسعى إليه «صحافيو السلام» في لبنان هو إعادة ثقة الصحافيين بالإعلام المحلي، وكذلك بناء الثقة مع الجمهور الذي يبحث عن المعلومات والوقائع، لا عن «البروباغندا» فقط. وفي هذا السياق، تلفت باسيل الى أنّ كلّ الصحافيين الذين يحضرون ورش العمل للتدرّب على مهارات «صحافة السلام» يحملون في داخلهم تمرّداً على الوضع القائم حالياً، ولكنّهم يعتقدون أنّهم وحدهم في مواجهة مؤسسات ضخمة. لكن تزايد أعداد المشاركين والمنضمين الى المجموعة، التي ستتحوّل الى جمعية قريباً، يؤدي الى تثبيت الصحافيين في مسارهم السلميّ. وتوضح باسيل أنّ المفاهيم التي يُعْمَل على تطبيقها ضمن «صحافة السلام» ليست «مستوردة» إنما هي عالمية، وتمثّل طريق العودة الى الصحافة المهنية. ولتعزيز واقعية هذا المسار، تعمل المجموعة اليوم على استدعاء صحافيين عالميين معروفين لالتزامهم بقضية الأم، منهم ستيفن يونغ بلاد الذي سيأتي الى لبنان في أيار (مايو) المقبل. «صحافيو السلام» في لبنان يطوّرون عملهم يوماً بعد يوم، وحتّى لو كان الشباب هم الأكثر تجاوباً حالياً، فهذه النزعة السلمية يمكن أن تطاول الأكبر سنّاً أيضاً لإعادة إحياء الرسالة الحقيقية للصحافة. وتماماً كما تقول جباعي، ف «من يتعمّق في مفهوم صحافة السلام سيجد نفسه منتفضاً على الواقع وراغباً في التغيير، كلّ وفق قدرته وإمكاناته».