كان ينقصنا هذا النزاع الأخير الناشب بين مصر والجزائر لنعترف، لأنفسنا على الأقل، أن الحرب التي شنتها قوى غربية «ضد الإسلام» بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 تحولت بفعل فاعل إلى حرب «داخل الإسلام». نعرف أن النزاعات الدولية ترافقت وظاهرة نشوء الدولة بمعناها الحديث. كان الأمل وراء ابتكار «الدولة» القضاء على النزاعات والصراعات بين قبائل أو بين طوائف أو بين إقطاعيات وأقاليم، وبالفعل نجحت الدولة إلى حد كبير في تحقيق هذا الأمل، ولكن في الوقت نفسه تسببت في نشوب أنواع أخرى من النزاعات، بعضها كان ربما أشد فتكاً بالأرواح وأفدح في الخسائر المادية والعواقب الأخلاقية. ونعرف أيضاً أن الدول العظمى استطاعت، خلال الخمسين عاماً الأخيرة، تفادي نشوب حروب مدمرة مستفيدة من حيازتها لأسلحة دمار شامل ومعتمدة على شبكات من علاقات التعاون والمصالح المشتركة والمؤسسات الدولية. حدث هذا بينما بقيت معظم أقاليم العالم الأقل تحضراً أو نمواً تعاني من نزاعات شتى، أكثرها من مخلفات مجتمعات ما قبل نشأة الدولة، وبعضها لصيق الصلة بالدولة ككيان له سيادة وحدود وجيش وعلم ومجموعة قيم والتزامات شكلت في مجموعها مفهوم «الوطنية» لتحمي به أرضها ومؤسساتها ومكانة الأنظمة الحاكمة من غلواء «وطنيات» أخرى. كنا في الإقليم العربي نعتبر نزاعاتنا جزءاً من ظاهرة عامة تسود أقاليم العالم الأقل نمواً وعلماً وتقدماً وحرية. وكنا، حباً في الاختلاف عن غيرنا، نقول إنه حتى في النزاعات لنا خصوصياتنا. فالعرب أمة واحدة بثقافة رئيسة ولغة واحدة ورصيد في التاريخ يكاد مع بعض المبالغة يستحق صفات الأقدم والأعمق والأغنى. كنا نقول إن تراثنا يحثنا على أن نمارس النزاعات كطقوس بمعنى أن ممارستنا للنزاع داخل مجتمعاتنا وبين بعضها والبعض الآخر تحافظ على بقائنا أمة واحدة وفي الوقت نفسه تحمي خصوصياتنا في مواجهة عوالم متغيرة ومراحل تاريخية اتسم بعضها بالثورية من حيث عمق التغيير وأبعاده السياسية والاجتماعية. مارسنا معظم نزاعاتنا تصعيداً وتهدئة وتسوية كما نمارس الطقوس، لها توقيت وأصول ودعاة وتنتهي غالباً عبر لقاءات وأحضان وقبلات ونادراً ما تسفك فيها دماء. ولكن بقيت عادات وتصورات شكلت التربة الخصبة للنزاعات بين النخب الحاكمة، وأحياناً بين أشخاص القادة أنفسهم، إذ إنه حين تتصور نخبة حاكمة، أو يتصور حاكم فرد، أن ما ينطق به إنما يعبر عما يدور أو يجب أن يدور في ذهن كل إنسان عربي، وأنه بما ينطق إنما يتحدث نيابة عن كل القيادات الحاكمة العربية، فالطبيعي أن يغضب بقية حكام العرب باعتباره إفتئاتاً على تصور كل منهم لدوره ومكانته في هذه الأمة. كان الظن في وقت من الأوقات أن هذه التصورات توقفت أو انحسرت بانحسار التيار القومي العربي، وكانت بالفعل علامة مميزة من علامات مرحلة المد القومي. انقضت هذه المرحلة، وحلت محلها مرحلة يهيمن فيها تيار آخر ساهم في «تديين» السياسة وفي «توطين» مبادئ الحكم بالإسلام ونصوصه في معظم بلاد العرب. أذكر أن العديد من المفكرين السياسيين الدائرين في فلك الإسلام السياسي أعربوا عن تفاؤل شديد ظناً منهم أن النخب الحاكمة الملتزمة قواعد الإسلام والنخب الضعيفة الإنجاز والقليلة الثقة في قدرتها على منازلة التيارات الدينية المتعاظمة النشاط، لن تجازف بالدخول في صراعات دموية مع دول تنهج الخط نفسه وستعمل على تسوية نزاعاتها المعلقة بطرق سلمية. أذكر أيضاً أن قيادات في الحركة القومية العربية تنبهت الى أن أنظمة حكم ترفع شعارات قومية تسببت في كوارث خلال محاولتها فرض الوحدة بالقوة، أو في أزمات إقليمية كبيرة باشتباكها في نزاعات بين بعضها والبعض الآخر، الأمر الذي دفع بتلك القيادات القومية إلى السعي إلى تجديد دمائها من طريق الاقتراب من التيارات الإسلامية بحثاً عن أرضيات مشتركة. وعلى رغم هذا التطور في التوجهات العقائدية لمعظم أقطار العالم العربي استمرت النزاعات العربية ولكن بمعدل منخفض عن المعدلات التي عرفتها منذ سنوات الخمسينات والستينات. ولم يصل القرن العشرون إلى نهايته إلا وكانت النزاعات العربية مادة ثابتة في مناهج دراسة الصراعات الدولية في الجامعات وموضوعاً كثير التردد في جداول عمل مراكز البحوث والدراسات. فجأة، ومع طلائع القرن الجديد، تحول الاهتمام بالأسباب الكامنة وراء ميل العرب إلى الاختلاف والشقاق إلى الأسباب الكامنة وراء ميل المسلمين إلى التطرف والعنف. كانت أحداث نيويورك في 11/9 نقطة الانطلاق نحو تحميل المسلمين المسؤولية عن عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وآسيا بعد أن كانت مسؤولية التوتر وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط تقع على كاهل العرب. وكانت الحرب ضد الإرهاب، وهي حرب في جوهرها وربما في أذهان مفكريها والمبشرين بها مثل بوش والمحافظين الجدد وقادة اليهود في الغرب حرباً ضد الإسلام، كانت هذه الحرب هي البداية الفعلية لهذا التحول. ولا شك في أن وصول أوباما إلى الحكم في الولاياتالمتحدة وكثيراً من التغيرات الواقعة حالياً في أوروبا والحلف الأطلسي والتحقيق الجاري في لندن حول المسؤولية عن غزو العراق، كلها علامات تؤكد فشل هذه الحرب في تحقيق أهدافها. ومع ذلك، وعلى رغم عدم توافر حصر شامل للنزاعات العربية خلال مرحلة الحرب العالمية ضد الإرهاب، أجازف بالقول إنه توجد مؤشرات توحي بأن دول العالم الإسلامي، عربية وغير عربية، التفت خلال هذه الحرب حول بعضها بعضاً والتفت كلها في شكل أو آخر حول الولاياتالمتحدة والحلف العالمي ضد الإرهاب وانشغلت بالحلف والإرهاب عن خلافاتها التي انخفض عدد الحاد منها عن الأعداد التي تعودنا عليها في سابق الأيام، وسادت المنطقة حالة من التوافق النسبي في العلاقات تجاه الغرب وأميركا بالذات، إما انصياعاً لضغوط الحلف الذي شكلته أميركا، أو تمشياً مع حالة دولية سائدة واستفادة من العائدات المادية والأمنية نتيجة مساندة هذه الحرب. ولكن ما أن قرر أوباما وقف الحرب العالمية ضد الإرهاب حتى عادت الخلافات والنزاعات إلى حالها قبل الحرب وربما أشد وأوسع نطاقاً، وزادت عليها أو تفاقمت فتن وحروب داخلية في دول إسلامية كثيرة. وتبدو واضحة، بمجرد الاطلاع السريع على خريطة للصراعات والخلافات الحادة في الشرق الأوسط وآسيا، خطورة هذا الانفلات في العلاقات الصراعية داخل العالم الإسلامي مولدة الانطباع بأن حرب الآخرين ضد الإسلام تحولت إلى حرب داخلية ضد الإسلام. نرى حروباً بين المسلمين في تشاد والسودان ودول في أقصى غرب أفريقيا وفي الصومال وبين الصومال وارتريا وفي اليمن وبين قطاع من اليمن والسعودية وفي اندونيسيا وباكستان وأفغانستان وفي العراق وبين قطاع الأكراد في العراق وتركيا، ونرى خلافات جديدة وأخرى تتفاقم في المنطقة العربية، نراها بين غزة والضفة الغربية في فلسطين، والجزائر والمغرب، وبين العراق وسورية، وبين سورية ومصر، وبين العراق والكويت، وتوترات على نيران هادئة بين قطر وعدد من أقطار مجلس التعاون، وبين مصر والسودان، وآخرها الخلاف بين مصر والجزائر الذي تفاقم وصار نزاعاً لم يمنع تحوله إلى صدام مسلح سوى البعد الجغرافي. اللافت للانتباه في هذا الخلاف أنه يضيف نمطاً غير مألوف إلى أسباب الخلافات والنزاعات العربية إلى حد أن يقال في غزة والضفة الغربية «يعيبون علينا الخلاف بين حماس والسلطة على أولويات النضال من أجل تحرير الأراضي المحتلة بينما يشتبكون في نزاع على كرة قدم». يسود اقتناع في عواصم عديدة، عربية وغير عربية، بأن العرب فشلوا في الحفاظ على استقرار الإقليم الذي يعيشون فيه، ويتحدثون في الغرب ويكتبون عن ضرورة البحث عن حل من داخل المنطقة الآسيوية الإسلامية والابتعاد قدر الإمكان عن العرب وخلافاتهم الصغيرة والمزعجة في آن واحد. ولم يكن الغرب وحده الذي يبدو كما لو كان قرر فعلاً البدء في عمليات البحث عن أركان جديدة، غير عربية بالضرورة، لتولي مهمة الحفاظ على الاستقرار الإقليمي والأمني. أصبح واضحاً، ومثبتاً، أن تركيا وإيران تبحثان معاً عن أنجح سبل للتدخل من أجل الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة التي تعيشان فيها وتتأثران سلباً بفوضى النزاعات الناشبة فيها وربما تحرك هذين البلدين الخشية على سمعة الهوية الإسلامية التي تضمهما، وغيرهما من الدول الآسيوية والعربية في منظومة إقليمية – دينية واحدة، وبخاصة بعد أن أصبح العالم الخارجي يتحدث عن النزاعات بين العرب باعتبارها نزاعات إسلامية. ولا شك في أن التغطية الإعلامية الغربية للنزاع المصري - الجزائري خير دليل على هذا التوجه الجديد في السياسات الخارجية الغربية والإعلام الغربي. كنت في تركيا عندما بلغ الخلاف بين الجزائر ومصر أوجه. سمعت هناك من يقول إن المصالح الإستراتيجية التركية الجديدة والأسس الإسلامية التي يقوم عليها توجه السياسة الخارجية الراهنة لن تحتمل السكوت عن حال الفوضى الناشبة في العلاقات بين الدول العربية. فكرت أن أعلق بالكشف عن السؤال الذي دار بذهني وهو أنه إذا كان الأتراك يروننا على هذا النحو فلماذا لا نتوقع أن يرانا الإيرانيون على النحو ذاته، وما الذي يحول من دون تسابقهما أو تكاتفهما لفرض الاستقرار علينا والتدخل لتسوية خلافاتنا؟ فكرت.. وتجاهلت السؤال. * كاتب مصري