ليست رواية «الألبوم الأسود» افضل روايات حنيف قريشي الكاتب البريطاني من اصل باكستاني، لكنها تمس ظروفاً تعيشها بريطانيا هذه الأيام، وهي موضوعة التطرف بين الشباب المسلمين في الغرب، الأمر الذي شجع المسرح الوطني «ناشونال ثياتر» على تبني عمل مسرحي مستوحى منها. الفكرة في الأساس كانت للكاتب نفسه اقترحها على المخرج جاتندر فيرما وفرقته «تارا آرت»، وأعد النص بنفسه الذي صدر في كتاب مستقل كمسرحية هذه المرة. وعلى رغم كل ذلك، وعلى رغم حساسية الموضوع وشهرة قريشي، إلا أن العمل لم ينل ذلك الاستحسان، وانقسم نقاد في شأنه. نشر حنيف قريشي روايته «الألبوم الأسود» عام 1995 وتجري حوادثها عام 1989، السنة التي شهدت الفتوى ضد رواية سلمان رشدي «آيات شيطانية»، والسنة التي انهار فيها جدار برلين وتداعت المنظومة الاشتراكية، بلداً بعد آخر. في ظل هذه الأجواء، يصل الشاب شهيد الى لندن للدراسة في جامعتها، منتقلاً من مدينة صغيرة في مقاطعة كنت التي ولد وعاش فيها مع أسرته الباكستانية الأصل، الى مدينة كبيرة تعج بالأفكار والتناقضات. وفي العاصمة، يتنازع على الشاب اتجاهان، أحدهما ممثل برياز الشاب المسلم الذي يقود مجموعة من الشباب المسلمين المتمردين بسبب تهميشهم في المجتمع، أما الاتجاه الآخر فيرمز اليه بأستاذته الجامعية المتحررة التي تدرس الأدب في مرحلة ما بعد الحداثة، وزوجها الماركسي الذي يساير المتشددين من منظور طبقي معتبراً إياهم مقهورين من طبقة أخرى متحكمة بهم في دلالة سخرية من اليسار المتطرف (تم المبالغة به). بين هذه التناقضات يكون على الشاب شهيد ان يجد طريقه في هذه الحياة ويبحث عن هويته. هل هو بريطاني، أم مسلم، أم باكستاني الجذور؟ وهو سؤال تتوه إجابته في عصر الانهيارات الكبيرة. لكنه بوصوله الى نهاية العمل المسرحي يكون قد انحاز الى معلمته ديدي في اختياره بينها وبين التطرف. وهو موقف قريشي نفسه الذي كتب مرة ان تعقيدات الحياة وضغوطاتها ليست مبرراً للتطرف. يحيا الشاب الذي يرمز الى الجيل الجديد من الآسيويين في عوالم شديدة التناقض: شخصيات تقليدية من عائلته، لا تريده ان يخرج من عباءة تقاليدها الغذائية والثقافية والاجتماعية، ممثلة بالأم وروح الأب المتوفى التي تجثم بظلها على علاقته بأسرته، الى الأخ الأكبر الضائع المنشغل بملذاته ومثليته، الى زوجة الأخ الانتهازية في مصالحها المادية والتي لا هي ابنة مجتمعها الأصلي ولا هي إنكليزية، ضائعة الانتماء الفعلي مثل زوجها. أما الضغوطات الأخرى فهي من تجمعات متطرفة تستقطب جيل الشباب الصغار مستغلة إحساسهم بالتهميش. أما الضغط النقيض فهو من المجتمع البريطاني الذي ترمز اليه ديدي الأكاديمية المنتمية الى مجتمع ما بعد الحداثة بقيمها المنفلشة. مدرسته لا تعلمه شيئاً مفيداً بإثارتها موضوعات مثل ظاهرة المغني برنس والمغنية مادونا، وطلبها من تلاميذها كتابة مراجعة عنهما، في الوقت الذي يريد هذا الشاب ان يعرف الكثير عن كبار الفنانين والمبدعين. عنوان الرواية في الأساس مأخوذ من البوم أغان ل «برنس»، الأميركي الأسود معنون باسم «الألبوم الاسود»، وهذا الفنان كان له تأثير في كثير من الشباب غير البيض، تحديداً في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، واعتبر مثلاً يقتدى بملابسه وستايل تسريحته عموماً. عرف حنيف قريشي من خلال روايته «بوذا الضواحي» التي فازت بجائزة «ويتبريد» في عام 1981. وكرس نفسه بها كاتباً متخصصاً بشؤون المهاجرين القادمين من أصول إسلامية آسيوية الى بريطانيا. يقف الكاتب على الحافة في المجتمع البريطاني، فهو ورث نصف جيناته عن أمه الإنكليزية البيضاء، وعاش في ضاحية بروملي جنوبلندن العاصمة، لكن هذا لم يمنع رفاقه في الحي من نعته ب «باكي»، وهو اسم السخرية من الشخص الباكستاني الأصل. سلوكهم نحوه حدد هويته كشخص خارجي غير مقبول بينهم. لذا، فإن العلاقة بين المهاجر والأبيض تظهر في أعماله، ومن بينها رواية «الألبوم الأسود»، وتظهر في النص المسرحي المعد عنها. يميل أسلوبه الروائي الى الواقعية الشديدة، والى ما يشبه السيرة الذاتية، فهو لا يكتب عن غير الذي يعايشه، ليس بمعنى التفاصيل الشخصية، ولكن بمعنى المعرفة والتجربة الحياتية أيضاً. غير ان واقعيته لا تنفي ان له أسلوباً يعتمد فيه التدفق اللغوي، وهو تدفق يعيش على الورق ويتهاوى على خشبة المسرح عند نقله من صفحات الكتاب. لكن العيوب تظهر على ما يبدو في إعداد حنيف قريشي نفسه لروايته، إذ فقدت ذلك الدفق اللغوي الأدبي، لتصير على المسرح مجرد تعليقات لاذعة وحوارات سريعة ومشاهد لا تكتمل أحياناً، فتنتهي قبل ان يندمج المشاهد في أجوائها. ساعدت بقية عناصر المسرحية على هذا التناثر، فالفصول هي اقرب الى الفواصل، او الاسكتشات التلفزيونية. وقد ضيعت سرعة الايقاع امكانية التركيز على عشرات الافكار المهمة التي تحفل بها الرواية الاصلية، مثل ثيمات العنصرية، الثاتشرية، المجتمع البريطاني ما بعد الحداثة، تقهقر اليسار، ازدواجية مواقف حزب العمال مع الاقليات المهاجرة، الاشارة المتكررة الى الروائي الفرنسي بلزاك. كل الافكار تمرّ سريعاً قبل ان تترك الفرصة لتأملها وربطها ببعضها بعضاً... تسمح بمشهد جديد وايقاع موسيقي سريع من الغناء الهندي او الموسيقى الشبابية. تصميم المسرح كان خانقاً بمحدودية مساحة الخشبة التي استثمرها، وثبات ديكوراتها الاصلية، وكل المشاهد تحدث في حدود ذلك الديكور مع تغيير في اماكن المكتب والمقعد من جانب الممثلين انفسهم، واعتمد المخرج تقنية الصور الفوتوغرافية لعرض خلفيات تميز الاماكن عن بعضها بعضاً. شخصيات كاريكاتيرية شخصيات المسرحية بدت اقرب الى الدمى، تحمل أفكار المؤلف والمخرج اكثر مما تقنع بما تقول أو تفعل من داخل الشخصية نفسها. نجح الممثل الكسندر آندرو بدور رياز، من خلال إتقانه اللكنة التي تسم البريطانيين من أصول باكستانية، إضافة الى حركة جسده التي هي جزء من اللغة نفسها. كانت هناك مبالغة كاريكاتورية في الأداء عموماً، وقد ضحك الجمهور كثيراً، ولكن المسرحية ليست في الأساس من النوع الكوميدي. على أي حال الضحك أسعف الجمهور أمام الملل. تمكن الإشارة الى ملاحظة أخرى إيجابية وهي تصميم الملابس التي تشي بخلفيات أصحابها، أي الشباب الآسيوي المسلم. وكذلك استخدام الفيديو كخلفية للتذكير بحرق كتاب سلمان رشدي، متوافقاً مع مشهد حادثة التفجيرات في صيف 2005. كان الربط جيداً بين تطرف يبدأ بحرق الكتب عام 1989، لينتهي بعد عقدين بعمل إرهابي تسبب بجرح الضحايا ومقتلهم. انهارت جدران الديكور دلالة على التفجير وثار غبار شديد يذكّر الجمهور بالجرح الذي تركه في جسد المجتمع البريطاني. أخيراً يمكن القول ان المسرحية التي ستعرض حتى تشرين الأول (أكتوبر) وتنتقل الى بقع أخرى في بريطانيا، لم تنجح تماماً كما نجحت الرواية، وقد كتب أحد الصحافيين متأسفاً ان الأقلية الآسيوية لم تملك فرص التعبير عن نفسها كثيراً من خلال المسرح، وعندما كانت هناك فرصة ضاعت في هذا العرض. لكن العروض غير الإيجابية كثيراً لم تمنع امتلاء قاعة العرض التي تتسع لأكثر من 300 متفرج، ولم تمنع تصفيقهم، ولعله تصفيق لصاحب النص نفسه ومكانته في المشهد الأدبي البريطاني، أو قد يكون الحماسة لثيمة نبذ التطرف التي تبناها العرض المسرحي «الألبوم الأسود».