حينما كنت أقرأ وأشاهد صور ما حدث لأهالي مدينة تبوك وهي تغرق تحت المطر، كما عبّر الكثيرون بذلك، وما نجم عن تلك السيول من أضرار جسيمة في ممتلكاتهم ومنازلهم، ومطالبة الأهالي والسكان المتضررين، وبعد أن ارتسمت على وجوههم ملامح الأسى والحزن، وسائل الإعلام بإيصال صوتهم ومعاناتهم للمسؤولين، قلت في خاطري ما أحوج هؤلاء المواطنين وغيرهم في شتى المدن والمناطق، نساءً ورجالاً وأطفالاً، إلى مؤسسات مستقلة عن الأجهزة الحكومية، تكون من الناس وإليهم، وتتحدث بلسان حالهم، وتقوم بدورها في الدفاع والمطالبة بحقوقهم، وتعريف المواطنين والمواطنات بحقوقهم وواجباتهم، وتسهم في تعزيز الشفافية والمراقبة على كل المشاريع والتجاوزات والتصرفات في المال العام، وتعبر وبصورة حقيقية عما يتحرك تحت سطح المجتمع وفي قاع المدينة، ويكون لها دور فعال في لجان التحقيق والمحاسبة، وكشف الفساد، وتسهم بصورة فعالة في صناعة القرارات المصيرية، وتسعى في تحقيق احترام وسيادة القانون على الجميع في المجتمع، وترسخ القناعات والممارسات لمبدأ التعددية وتعزيز حرية الرأي والتسامح وحقوق الإنسان، وتوسع قاعدة المهتمين بالمصلحة العامة، ما يكون له دور في تقوية الانتماء، وتمتص حالات الاحتقان الاجتماعي والسياسي، وتعمق مفاهيم العمل المؤسسي، وتدعم النهج السلمي في الحوار بين الأطراف المختلفة، وتستوعب الطاقات الشبابية، وتوفر وتهيئ روح العمل الجماعي المؤسسي، وتحمي مصالح الأفراد والجماعات والمنتمين للمهن والتخصصات المختلفة كافة التي ينتمون لها، وتدافع عن حقوقهم إزاء أي تجاوزات مهنية أو وظيفية. مثل هذه التكوينات وحضورها العملي أصبح ضرورة ملحة في تشكيلة الدولة الحديثة، وأداة فعالة في تحقيق تطلعات الشعوب، وضمانة رئيسة لاستقرار المجتمع وتحقيق أمنه ورفاهيته، فالدولة المؤسساتية في عصرنا لم تعد تلك الدولة التي تقوم بكل الأدوار التي تطالها يدها، من الإدارة السياسية، إلى التنمية الاقتصادية، إلى العمل الاجتماعي، إلى البناء المعرفي والتعليمي بمعزل عن مشاركة أفراد المجتمع في ذلك، ولم تعد تقوم بكل شيء وتحتكر كل شيء، بل أصبح المجتمع فيها، ومن خلال هذه المؤسسات، لهم دور فعال ومهم في الإسهام في إدارة شؤونهم، والمشاركة والتأثير في صنع القرارات، وتشجيع الفاعلية التنموية والرقابة ومحاربة الفساد. لذا فإن الحديث المستمر والمتصاعد عن أهمية مفهوم المجتمع المدني، وبناء وإنشاء مؤسساته الفاعلة، وليست المؤسسات الشكلية ذات المسمى المدني المفرغ من مضمونه ومحتواه، هو ضرورة ملحة من أجل تحقيق وتعزيز مفهوم وثقافة المواطنة، وتحقيق دور المجتمع في المشاركة في صنع القرار، وتذويب الفروق الطائفية والمذهبية والمناطقية كافة، بحيث يصبح المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات أمام بعضهم البعض وأمام مؤسسات الدولة. لقد استبشر الكثيرون من المهتمين في مجال الحقوق والعمل الاجتماعي، حينما صدر في كانون الثاني (يناير) 2008 موافقة مجلس الشورى السعودي على النسخة الجديدة لما عُرف باسم «نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية» المعني بتنظيم عمل مؤسسات المجتمع المدني بما فيها المؤسسات الحقوقية والتطوعية والخيرية والمهنية والعلمية، وذلك بعد مخاض عسير وتعديلات ونقاش وجدل، استغرق فقط داخل المجلس ما يقارب من العام ونصف العام، وعلى رغم وجود الكثير من الملاحظات والانتقادات على المشروع، التي من أهمها منح الهيئة الوطنية المشرفة على الجمعيات والمؤسسات دوراً ليس إشرافياً، بل دوراً رقابياً ومنحها الكثير من الصلاحيات بالتدخل في عمل المؤسسات، ما يؤدي إلى انتفاء استقلاليتها، إلا أن الكثير من المراقبين اعتبروا أن هذا النظام أو المشروع هو أهم مشروع تم عرضه ومناقشته في أروقة مجلس الشورى، وذلك لما سيكون له من أثر كبير وفعال في تغيير مفهوم دور الفرد في المجتمع، إذ نص مشروع النظام في مقدمته على أنه يسعى إلى تحقيق أهداف هي: الإسهام في التنمية الوطنية، وإشراك المواطن وتعزيز مشاركته في إدارة مجتمعه وتطويره، وتنظيم العمل الأهلي، وهذه أهداف نبيلة بمفاهيمها، تشكل بداية فعلية للمشاركة الشعبية في صناعة القرارين الإداري والسياسي، وبداية تحمل المواطن مسؤوليته الفعلية تجاه مجتمعه ووطنه وخلق ثقافة جديدة تنقل المواطن من التفكير والاهتمام بالشأن الخاص إلى الاهتمام بالشأن العام والمشاركة في إدارة شؤون وطنه ومجتمعه، وتم رفع النظام بنسخته الجديدة إلى مجلس الوزراء لاعتماده، ومضت حتى الآن أكثر من أربعة أعوام، ولم يرَ النور حتى الآن، ولا يزال حبيس الأدراج وقابعاً منذ ذلك الحين في دهاليز هيئة الخبراء من أجل دراسته! لقد كان الجميع يأمل، حين صدر النظام، من مجلس الشورى أن يتم اعتماده، وذلك في أقرب وقت ممكن، مع الأخذ في الاعتبار وجهات نظر الكثير من المثقفين والمهتمين بالعمل الحقوقي والاجتماعي في ما يتعلق بدرجة الصلاحيات الممنوحة لتلك المؤسسات الأهلية والمدنية، ودرجة الرقابة عليها، وألا ندخل في دوامة كلمة (قريباً)، خصوصاً ونحن في خضم حراك كبير يعيشه المجتمع في كثير من النواحي، ولكن قدرنا شاء أن نتحدث وأن نفتح الحديث من حين لآخر عن نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وأن نتساءل متى سينال الفرج؟! * كاتب سعودي. [email protected] @hasansalm