عثرت «الحياة» في ما يشبه المصادفة السعيدة وغير السعيدة في آن، على نحو 2000 نسخة من «التضاريس» للشاعر الراحل محمد الثبيتي، الديوان الذي أحدث ربكة في الذائقة الشعرية، وأثر، وما يزال، في غالبية الشعراء في السعودية، وتحولت مقاطع منه إلى ما يشبه الأغنية يرددها الشعراء والمثقفون، بخاصة من قصيدة «تغريبة القوافل والمطر» وسواها من قصائد ميزت المشهد الشعري في المملكة، خلال حقبة الثمانينات الملتهبة. عثور «الحياة» على هذا الديوان أمر يمكن اعتباره مصادفة سعيدة، كونه يعيد الثبيتي من جديد إلى الواجهة الشعرية، التي لم يفارقها يوماً، ومصادفة غير سعيدة، لأن هذه النسخ تم تخزينها في قبو النادي، الذي طبع الديوان منذ أكثر من ربع قرن، وهو ما يعتبره المثقفون في استطلاع ل«الحياة» أمراً مخجلاً ويمس المكانة الكبيرة لهذا الشاعر. أليس من الواجب توزيعها على حضور ندوات النادي، أو إهداؤها إلى مكتبات الأندية الأدبية ومؤسسات الثقافة؟! أليس إهمال ديوان بهذه الفرادة، هو إهمال للشعر وللجمال نفسه، ومن ثم للراحل، الذي أتعب الشعر وتعب منه؟! هنا شهادات لعدد من المثقفين: محمد ربيع الغامدي: الخبر الفاجعة فمي مغلق للبكاء يا سادتي، أبكاني هذا الخبر الفاجعة، ليس للمال الذي يهدر في مطبوعات لا يطلع عليها أحد، وليس لأندية والعاملون فيها مثل «مُضيّع جمل خالته» إن وجده غنى وإن لم يجده غنى، ولكني أبكي لهذا المصير الفاجع الذي يؤول إليه الجمال، هذا الألق الذي يُسْحق تحت سنابك الإهمال ثم يدفن بكل برود في قبو مظلم بلا غسل ولا كفن ولا صلاة. أنا متأكد يا سادتي أن هناك من تمنى اقتناء نسخة منه فلم يوفق، متأكد أن صاحبه قد احتاج إلى نسخ يجامل بها محبيه فلم يظفر بشيء، متأكد أن نسخاً من هذا الديوان الوطني كانت ستزين مكتبات المدارس والجامعات والأندية الأدبية وجمعيات الثقافة، لكن «مُضيّع جمل خالته» قد حكم عليها بالوأد حية «مُضيّع جمل خالته» هذا الذي يلاحق دمناً في كل مكان، هذا الذي يفتك بنا، بإهماله وعدم مبالاته وبإغراقه في روتين التسليم والاستلام وبيروقراطية المحاضر والمشاهد والكشوف، هذا الذي يتغلغل في حياتنا حتى العظم، هو المسؤول عن كثير من الفاقد في حياتنا، وما ديوان الشاعر الرمز إلا نموذجاً لذلك، فرحم الله الشاعر ورحم الغيرة على الوطن وعلى مكتسباته. محمد زايد: اللاحقون يتحملون الخطأ لا أظن ذلك إهمالاً. الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين رائد كبير، وشجاعته في مواجهة الظلاميين وهم في أوج تسلّطهم في تلك الحقبة، أمر يشهد له كلّ من عايش ذلك الظلام الذي اجتاح البلاد تحت راية الحرب على الحداثة.. حينها أجبر النادي على حرمان الثبيتي من جائزته.. وحينها لم يكن للأستاذ أبو مدين إلا الحفاظ على أجندته المتقدمة والسابقة لزمنها حتى لو كان ذلك على حساب التقصير في شاعر بقامة الثبيتي.. وإذا كان هناك من خطأ فاللاحقون يتحمّلونه، أما الأستاذ أبو مدين فقد أدى ما عليه وخرج عملاقاً في عيون المنصفين الذين ينصبون خيام التكريم لكلّ متردّية ونطيحة، ويتناسون قامة بحجم عبدالفتاح أبو مدين، وما أنجزه إبان رئاسته للنادي.. وعود على بدء الثبيتي أكبر حضوراً من ألفي نسخة في قبو النادي. فهد الخليوي: مرارة وإحباط أشعر بالمرارة والإحباط من خلال سماعي لهذا الخبر العجيب، فألفا نسخة لأهم ديوان في تاريخ الشعر المحلي والعربي يتعرض لهذا العبث، وتظل أتربة عشرات السنين تتراكم على نبض مفرداته داخل «قبو» لنادٍ أدبي يفترض أن يكون في مستوى المسؤولية والفعل الثقافي الجاد، ولا يحجب هذا الكم الكبير من النسخ المدهشة داخل قبو، ويحرم الآخرين لمن يريد أن يقرأ شعراً ثرياً مفعماً بالجمال وقمة الإبداع من اقتناء ديوان «التضاريس» للراحل الكبير محمد الثبيتي! محمد المنقري: جريمة ثقافية هذا نتاج حتمي للاستبداد الإداري الذي هيمن على القطاعات الثقافية، والفردية التي ينطلق منها ويعود إليها التخطيط الضيق لكل البرامج والفعاليات. وقد ظل النادي طوال 25 عاماً يدار من شخص واحد فقط ورقابة شبه معدومة من الرئاسة العامة لرعاية الشباب التي أشرفت على الأندية الأدبية منذ تأسيسها، ولم يكن لمثقفي المنطقة إلا الاحتفال بالمناسبات المنبرية التي صرف عليها النادي موازنات، ذهب معظمها على الموائد الدسمة التي يختتم بها كل أمسية في تكريس لمفاهيم الهدر المالي باسم الثقافة والأدب. لا يجد القارئ إصدارات نادي جدة في مكتبات مدينته، لكنه يجد إصدارات نادي حائل والشرقية والمدينة المنورة والرياض؛ وهذا دليل على عدم وعي بالتسويق الثقافي، أو عدم إقبال القارئ على محتواها؛ ولذا اكتفى النادي من الغنيمة بالإياب، لكن مع ديوان «التضاريس» يكون التكديس والحجب جريمة ثقافية تجب محاسبة المتسبب فيها، فالديوان وشاعره حققا سمعة عالية واهتماماً منقطعاً من النقاد والدارسين داخل البلاد وخارجها، وقد أحسن نادي حائل حين أخرج أعماله الكاملة وبرع في توزيعها بشكل حضاري كان محل حفاوة الجميع. عبدالله براك: كيف يمكن تغييب كل هذا الجمال؟ أمر في غاية الغرابة.. هل يمكن أن تخيل أن كل هذا الجمال منذ سنوات طويلة مغيب عن المتلقي؟ أجزم أن الكثير كانوا يبحثون عن هذا النتاج الرائع للشاعر محمد الثبيتي. هو تصرف غير مستغرب من مؤسسات تفتقر إلى أبسط النظم الإدارية في تسيير عملها، فالأندية الأدبية، وهي مؤسسة يفترض بها القيام بالدور الأكبر في نشر نتاج المبدعين من كتاب وشعراء، تحتاج - في رأيي - إلى شراكات مع مؤسسات توزيع متخصصة وإلى منظومة تدير عمل هذه المؤسسات. فمهارات تسويق الأعمال الإبداعية والمناشط الثقافية والعلاقات العامة في التواصل مع المحيط، تحتاج إلى متخصصين، بعيداً عن الارتجالية والاجتهادات الشخصية التي تدور في فلك المحسوبيات والشللية.