لم أكد ألتقط أنفاسي وأنا أتلقى خبر وفاة الصديق الشاعر محمد الثبيتي رحمه الله؛ حتى انهالت عليَّ الاتصالات من هنا وهناك؛ باحثة عن مشاركات في تأبين الراحل. والحقيقة هذا أقل القليل تجاه شخصية بحجم محمد الثبيتي رحمه الله. لكني لم استطع أن أكتب إلاّ بضعة أسطر أرسلتها لأحد الأصدقاء، وحديث قصير لأحد البرامج لم أقل فيه كل شيء. لقد كانت الصدمة كبيرة، بحيث بقيت صامتًا طوال فترة العزاء تقريبًا. وكان مبعث حزني، هو تلك الطريقة التي عومل بها في حياته وفي مرضة، وحتى بعد مماته. ففي حياته، تحمّل ما لا يحتمل من هجمات شرسة بسبب الموقف من ديوانه الذائع الصيت «التضاريس» الذي تحدّث النقاد عنه، وحمّلوه ما لا يحتمل؛ لكنّ أحدهم لم يخطر بباله قط؛ أن يقف على مفردة التضاريس هذه، ويسأل نفسه لماذا التضاريس بالذات! أكان الثبيتي يعلن من خلال ديوانه هذا عن تلك التضاريس التي وجدها في حياته؛ لقد كانت تضاريسًا وعرة وموغلة في التعب. إنّها تضاريس صقلته كثيرًا، فتلقى الصدمات الصدمة تلو الأخرى، بشموخٍ وإباء، ليس لهما نظير. لقد حُرم محمد الثبيتي رحمه الله من أشياء كثيرة جدًا بسبب الموقف العارم من تضاريسه من فئة ما فتئت تحاربه، وما قصة تسلمه الجائزة من النادي الأدبي الثقافي بجدة؛ إلا شاهدٌ على صعوبة هذه التضاريس. كان معلمًا يعشق التعليم، وكان ذا خطٍ جميلٍ، حُرّم أولئك التلاميذ من خبرته عندما أقصوه عن مهنة التدريس، ليكمل بقية حياته العملية في الاحصاء ثم في المكتبة العامة في تعليم العاصمة المقدّسة. فمن سوء حظه، بزوغ نجمه في مرحلة كانت الحرب بين الحداثة وخصومها في أوجها، ولم يجد بعض المنظرين من النقاد إلاّ شعر محمد الثبيتي ليكون مادة تطبيقية لأبحاثهم. ولكن مصيبته الكبرى، ليست في الأحكام والقسوة التي تلقاها من خصوم الحداثة؛ لقد كانت من بعض المنتمين للحداثة نفسها؛ أولئك الذين صعد نجمهم على أكتاف التضاريس شاءوا أم أبوا؛ لكنهم فيما بعد تنكروا له ولتضاريسه، وادّعوا (البعض منهم) بطولات لم يكونوا أبطالًا فيها، ودلّسوا كثيرًا في شهاداتهم على تلك المرحلة. لقد كنتُ وقتها طالبًا في جامعة أم القرى، وكانت يدي تتلقّف ملحق الأربعاء بجريدة المدينةالمنورة، التي كان يكتب بها وقتذاك الأساتذة أحمد الشيباني وسعيد السريحي وعبدالله الغذامي والمليباري وسواهم. وكنت أرقب ما كان يحدث على مقربة من جامعة أم القرى في نادي مكة الثقافي الأدبي، حين كان المليباري والمفرجي، وغيرهما، يرميان الجانب الآخر بسهام الحرب صباح مساء، يعضّد ذلك ملحق جياد في جريدة الندوة. وقتها كان صمت الثبيتي هو الأكثر إيلامًا لهم، وهم يريدونه أن يرد، لكنه لم ينزلق لتلك المناوشات. كانت آراء الثبيتي واضحة للعيان، فلم يكن بها ما يمكن أن أسميه انقلابًا على رأي اعتنقه أو فكرة وجدها صائبة. لقد بدأت مرحلته الشعرية عمودية خالصة كسائر الشعراء الذين مروا على التراث ونهلوا من معينه الذي لا ينضب، ثم تأثر بحركة الشعر الحديث في العراق ومصر وبلاد الشام. فكان انتقاله لقصيدة التفعيلة انتقالًا حدث بعد قناعته بتقنية قصيدة التفعيلة وشعوره أنّ هذه القصيدة سوف تُوصل ما يريدُ أن يقوله من شعر، فكانت واضحة ابتداء من بعد ديوانه: عاشقة الزمن الوردي، وظهرت جلية وواضحة في بقية شعره. ولقد كان منهجه الشعريِّ والحياتي، هو ما تبيّنت نتائجه فيما بعد وبخاصة في مرحلة مرضه؛ لقد نأى بنفسه عن المديح والإطراء، وشن الهجاء سواء أكان شعرًا أو آراء، فلم يمدح كريمًا، ولم يذّم لئيمًا، وجعل لنفسه خطًا أحمرَ، فأدرك منذ البدء عدم حاجته للوقوف على باب أهل المال والجاه والسلطان، وما لا يعرفه الجميع اهتمامه بسيرة حسين سرحان رحمه الله. وكانت رحلته إلى بغداد ومشاركته في مهرجان المربد الشعري، من أهم المحطات في حياته؛ لقد جاء إلى بغداد، وهي حاضرة الشعر العربي في ذلك الوقت، إذْ كانت تغصُ بالشعراء العرب الكبار، وجعلته تلك المرحلة يراجع منهجه الشعري، ويقف كثيرًا على تجارب عربية، وعُرف عربيًا حيث توالت مشاركاته العربية بعد مشاركته في مهرجان المربد الشعري، فكانت العواصم العربية محطات متعددة، ساهمت في تعرّف الجمهور العربي على منجزه الشعري. ووضح ذلك من خلال حفظ الجمهور لكثيرٍ من مقاطع قصائده الشعرية. كانت بغداد وقتذاك حاضرة للبعث العربي، وكان هناك أحزاب يسارية بعضها سرية، وبعضها لم يكن بذي شأن على خارطة السياسة العربية، واستهوت هذه الأحزاب المثقف العربي الذي وجد فيها سبيلًا للتعبير عن رأيه في السياسة، وانخرط في بعضها بعضٌ من المثقفين السعوديين، وكانت الهزائم العربية أحد أهم الأسباب التي جعلت هؤلاء ينخرطون في هذه الأحزاب وفي لعبة السياسة. لكنّ محمد الثبيتي أدرك أنّ السياسة والثقافة تسيران في خطين متوازيين ولا يمكن أن يلتقيان أبدًا. وإذا انخرط المثقف على وجه الخصوص في السياسة؛ فسوف تؤثر في نظرته للشعر. ومن هنا نأى بنفسه عن الوقوع في فخ السياسة، أتذكر في هذه الأثناء كيف كان معجبًا بكتاب طبائع الاستبداد لعبدالرحمن الكواكبي، وكانت فكرة المثقف الحقيقي لديه تقترن بابتعاده المطلق عن لعبة السياسة التي خدعت الشارع العربي، ووقف الثبيتي شاهدًا عليها في حرب النكسة وفي حرب الانفصال في اليمن، وفي حروب الخليج المتعددة، مما جعله ينفض يده من خيار السياسيين العرب، ولقد قال مرة: لقد رزقنا الله في الوطن العربي بكل شيء إلاّ السياسة، فلم يرزقنا بسياسيين. لقد كان يرى في الهزائم العربية وفي الحروب العربية العربية، نتيجة لإخفاق السياسة العربية، وفي انضوائها تحت مظلة الآخر. وكان هذا الالتزام بالنسبة إليه صارمًا، فلم يرق له أن يكتب الأعمدة الصحافية مثلًا، وإنْ كان جرّب ذلك في صحيفة عكاظ، لكنه لم يستمر على أي حال. ولم يرد أن يبث أفكاره وآراءه، لإيمانه أنّ الشعرية الحقيقية هي خير من يعبّر عن آرائه في كل ما يحدث. وكانت قصيدة موقف الرمال موقف الجناس هي إجابات متعددة على أسئلة كثيرة كانت تواجهه من الاصدقاء والصحافة على وجه الخصوص، وفي مقطع من (أمضي إلى المعنى) يتجلى موقفه واضحًا، حيث يقول: في ساحة العثراتِ ما بين الخوارجِ والبوارجِ ضجّ بي صبري وأقلقني مُقامي وما لا يعرفه البعض؛ اهتمامه وعشقه للرسم؛ فقد أحبّه كثيرًا، ورسم بعض اللوحات بقلم الرصاص، لكنها كانت موهبة فقط، فلم يدع شيئًا يأخذه من القراءة والكتابة. ولم يكن لديه تحفظات على ألوان الثقافة والأدب الأخرى؛ لقد كان صديقًا ومتابعًا لكثير من شعراء الشعبي، فهو جاء في الأصل من أسرة شعرية، وكثيرًا من كان ينشد شيئًا من شعر أبيه، واهتم أيما اهتمام بالفنون الغنائية ليس في الجزيرة العربية فحسب؛ بل في سائر الوطن العربي. وهذه الروافد كان دائم المتابعة لها. في مرحلة مرضه، كانت الأخطاء الطبية والبطء الشديد في علاجه، ثم قرار مدينة الامير سلطان الطبية اخراجه منها، هي أكثر النقاط إيلامًا كلما تذكرتها؛ ولكنْ قدّر الله وما شاء فعل. وحين مات طافت سيارة الاسعاف بجثمانه بين جنبات مكة التي أحبها كثيرًا؛ ونام الجثمان نومته الأخيرة في المغسلة انتظارًا لدفنه في اليوم الآخر. غير أنّ ما حدث بعد موته كان تكملة لما حدث قبل موته؛ فكان أنْ ادّعى البعض معرفته للثبيتي ومصاحبته له، بل ادعى صداقته من لم يره إلاّ لماما، ووجد البعض مع كل أسف من قصة الثبيتي طريقًا لهم للعبور وتلميع أنفسهم عبر الانترنت وعلى صفحات الجرائد والاعلام بصفة عامة. ولكل هؤلاء أقول، إنّ محمد الثبيتي ليس نبيًا حتى تدعون صحبته، وليس رجل دين تحتاجون شهادته لكي يجيزكم إلى عالم الفتوى؛ لا يا سادة، لقد كان محمد الثبيتي رجلًا بسيطًا، عاش وفي داخله نبل الرجل الريفي، وإنّ في تراشق هؤلاء عبر الصحافة والانترنت، واتهام بعضهم البعض باتهامات لا تليق من حيث خذلان الثبيتي والتخلي عنه وما إلى ذلك هي أشياء لا فائدة منها الآن. لقد حمل محمد الثبيتي سمعة المملكة في محافل كثيرة؛ وشارك رغم ظروفه ورغم مرضه، ولم يتسلّم حتى مستحقاته في بعض هذه المشاركات. ومع هذا لم تلتفت المؤسسات الثقافية الرسمية والخاصة إلى أسرته وإلى ضيق ذات اليد الذي أصابها بسبب فقد عائلها الوحيد، ولم تسعَ إلى توظيف ابنائه وبناته وشقيقاته وهم يستحقون ذلك! بل الأدهى من ذلك والأمرّ؛ إنّني قد تابعت صحافتنا، فلم أجد هذه المؤسسات قد تبرعت بربع صفحة لنشر خبر وفاته أو تعزية أسرته، ولو كان الميت من أهل الجاه والسلطان، لكان للقوم شأن آخر معه. رحل محمد الثبيتي تاركًا لنا إرثًا عظيمًا هو الشعر، وإذا كنّا نحبه، فعلينا أن نوفي هذا الشعر حقه من الدراسة والبحث. فلولا اللفتة الكريمة من نادي حائل الأدبي في طباعة مجموعته الكاملة وبعض القصائد بصوته؛ لبقي نتاجه الأدبي متناثرًا هنا وهناك، فالشكر كل الشكر للصديق الشاعر محمد الحمد؛ ولبقية أعضاء نادي حائل الأدبي في تلك الفترة الذين أصلحوا ما أفسد الدهر مع الثبيتي. سوف يكتب كثيرًا وكثيرًا عن محمد الثبيتي، وسوف يدعي من يدعي وصلًا به، والقائمة ستطول من النفعيين والمنتفعين؛ لكنّ الثبيتي رحمه الله وقد غيّبه الموت برئ كل البراءة من بعض هؤلاء المتسلقين؛ فلم يقل رأيه في نتاج بعضهم الأدبي، ولم يزكِ نتاجهم الأدبي. وكم من شاعر أو أديب سيدعي أنّه خرج من عباءة الثبيتي الشعرية؛ بينما الحقيقة عكس ذلك. وما يحزنني حقًا، هو سعي بعضهم إلى تكريمه، بعد مماته؛ وهم الذين لم يدعونه يومًا، ولم يزوروه في مرضه، ولم يعزوه أو يمشوا في جنازته. فلماذا كل هذا النفاق الرسمي الذي تسعى إليه بعض المؤسسات الثقافية مع كل أسف. في هذا البلد الذي يستغل فيه كل شيء حتى الميت، تجد من يستغل مماته ويجيّرها له! لقد ذهب الثبيتي للقاء ربه، محاطًا بطفلين ماتا لم يبلغا الحلم، ودفن في مكة التي أحبها كثيرًا، وسننتظر زمنًا طويلًا حتى تلد هذه البلاد شاعرًا آخر بحجمه. رحمه الله وأسكنه فسيح الجِنان.