لم يمانع كثير من عشاق الماضي من مواكبة العصر الحديث ومسايرة التطور حتى في ما يختص بمطعمهم ومشربهم، غير أنهم لا يستطيعون الاستغناء عن بعض الوجبات الخفيفة التي تربطهم بماضيهم وتعزز عندهم أصالة البادية وعبق الحضارة الأصيلة، بحسب تعبيرهم. وفي الوقت الذي سيطرت فيه ثقافة ال «كب كيك» على جيل الشباب وجعلت من متذوقيه وعاشقيه ملمحاً للتطور وركوباً لسلم الحضارة، اعتبر البعض أن ثقافة خبز «الملّة» هي التفسير الحقيقي لمعنى الأصالة وحفظ ثقافة الأجداد. زائر الشتاء، والضيف السمين على موائد الإفطار كوجبة خفيفة يتناولها سكان الطائف لمنح أجسادهم الدفء وشيئاً من الحرارة بفعل السمن المدهون على وجهه، والعسل الذي يضفي حلاوة لمذاقه، وبرغم مكوناته البسيطة، وطريقة إعداده التي لا تتطلب من صانعه أدنى جهد، سوى قليل من لكمات اليد في الدقيق المذاب في الماء حتى يصبح عجيناً متماسكاً، قبل أن يدفن في كومة من الجمر المستعر، لمدة لا تتجاوز 45 دقيقة ليزاح بعد ذلك ما التصق به من جمر بضربات وتربيتات خفيفة ب «ملقط» الجمر، ليُكشف عن الوجه الجديد للخبز. عشاق خبز «الملّة» اعتادوا على إعداده في طلعاتهم البرية، أو باستخدام مواقد الجمر في المنازل، بيد أن «أفران الغاز» لم تدع خبز «الملّة» يتمتع بعبق الماضي ورائحة «السمر» أو «الغضى» المشتعل مسبقاً لإعداده. وعمدت بعض المخابز إلى صنع خبز «الملّة» وبيعه لمحبيه بأسعار تختلف باختلاف أحجامه ومقاساته، وتتراوح أسعاره بين 15 ريالاً للحجم الصغير، و25 ريالاً للحجم المتوسط، بينما يصل سعر الحجم الكبير منه إلى 35 ريالاً، الأمر الذي يجعله في متناول الجميع، في حين واكبت بعض سيدات المنازل رياح التغيير وعمدن إلى إحراق الخبز بنار الفرن ليخرج من كهفه الساخن بأجمل منظر للمحبين. وتختلف طقوس تناول خبز «الملّة» عند كثير من عاشقيه، ويؤكد نواف العتيبي أنه لا يحب تناول خبز «الملّة» إلا وهو يسبح في بحيرة لا تتجاوز سوى الأطراف القصيرة لقعر الصحن المقدم به، ويكون مزيناً بالعسل الحر، مع كوب من حليب الماعز المغلي المخلوط بالزنجبيل، ليطرد برد الشتاء من جسده، بينما لا يقبل فهد عائض تقديم خبز «الملّة» على مائدة الطعام إلا «مفتوتاً» لقطع صغيرة جداً، ليكورها بيده قبل أن يرسلها إلى فمه متلذذاً بطعمها. وقد يتشارك خبز «الملّة» مع ال «كب كيك» في بعض المكونات الأساسية، إلا أن السيد العجوز «الملّة» يحظى بثقة وقبول عند الصغار والكبار على السواء، بعكس ال «كب كيك» الذي لا تتعدى شعبيته جيل الشباب، ليصبح «الملّة» خير شاهد على عصر «الطيبين».