ابتدأت الأشياء المقلقة تظهر في مصر تباعا. فبالأمس القريب، هاجم السلفي عبد المنعم الشحات نجيب محفوظ، مفخرة الآداب العربية في هذا العصر، متهما إياه بأنه عار على مصر! لاحظ كيف انقلبت القيم عاليها سافلها. واليوم يهاجم سلفي آخر هو عسران منصور أحد كبار فناني مصر والعرب عادل إمام بتهمة مشابهة: أي ازدراء الدين الإسلامي في أعماله الفنية والسخرية من الجلباب واللحية. لاحظ كيف اختصر الرجل الدين الإسلامي بمجرد إرخاء اللحية ولبس الجلباب! هل هذا هو الدين الذي صنع إحدى أعظم الحضارات على وجه الأرض أيام الرشيد والمأمون وقاهرة الفاطميين وقرطبة الأندلسيين وبغداد العباسيين والبويهيين، هذا من دون أن ننسى دمشق الأمويين؟ هل نتحدث عن نفس الشيء نحن وإخواننا السلفيين إذ نلفظ كلمة: إسلام؟ أشك في ذلك كل الشك. هل لنا نفس التصور عن الدين الإسلامي الحنيف؟ حتما لا. هم يتصورونه إكراها وعسرا وشكليات فارغة، ونحن نراه سماحة ويسرا وجوهرا روحانيا أخلاقيا ميتافيزيقيا عالي المستوى. وإذن، فالصراع المقبل الذي سيتسارع بعد اكتساحهم للانتخابات المصرية والتونسية، وحتما الليبية، وما سواها، ليس بين الإسلام والإلحاد كما يزعمون، ولا حتى بين الإسلام والعلمانية الروحانية الرائعة، وإنما بكل بساطة بين إسلام وإسلام: أي بين إسلام العصر الذهبي، وإسلام عصر الانحطاط. نحن الآن نراوح هنا. في ما يتعلق بي شخصيا، لم أشك لحظة واحدة في أن المعركة الفكرية قادمة لا ريب فيها. بل واستغربت كيف تأخرت كل هذا الوقت. في حياتي كلها، لم أشك في أنها معركة العصر وأن كل ما عداها ثانوي أو قل يتوقف عليها. لهذا السبب، لم تعن السياسة السطحية بالنسبة لي شيئا. كنت دائما مهووسا بالمعركة الفكرية. كانت شغلي الشاغل ولا تزال. هذا لا ينفي إطلاقا مشروعية الانتفاضات الحالية ضد أنظمة الفساد والطغيان وخنق الأنفاس. ولكن كنت دائما أنطلق من المبدأ الأساسي التالي: مستحيل أن تحسم المعركة السياسية قبل أن تحسم المعركة الفكرية. قصدت المعركة بين الإسلام المستنير من جهة، وإسلام التكفير ومحاكم التفتيش وملاحقة الناس على الصغائر من جهة أخرى. المعركة إذن دائرة بين تفسيرين وفهمين للإسلام، وليست بين الإسلام وأي شيء آخر، على الأقل في المدى المنظور. لذلك، أعتذر عن مقال سابق نشرته هنا في «الشرق الأوسط» بعنوان: ثورة تنويرية لا أصولية. وقد تسرعت عندئذ وتهورت تحت ضغط الحماسة الشعبية العارمة فشبهت الثورة المصرية بالثورة الفرنسية، نائيا بها عن الثورة الإيرانية وكل الثورات الدينية. لا ريب في أن شباب ميدان التحرير، حيث تعانق الإسلام مع المسيحية وارتفعت أعلام «الوفد» الوطنية، كانوا يمثلون القيم العليا للحرية. ولكن الثورة سرعان ما صودرت من قبل طرف واحد مضاد لها ولكل أهدافها التحررية. وسارت الأمور في مجرى مخالف كليا للثورة الفرنسية أو الإنجليزية أو الأميركية: أي كل الثورات التي دشنت العصور الحديثة وقيم التسامح الديني وحرية الضمير والمعتقد. ولولا ذلك، لما تجرأ السلفيون على إهانة رموز مصر الأدبية والفنية، والآتي أعظم.. ذلك أنهم لن يتوقفوا عند هذا الحد. كل من كتب في الاتجاه العقلاني ودافع عن التفسير التنويري لرسالة الإسلام والقرآن وخالف التفسير الشعبوي الشائع، سوف يتعرض للضغط والتهديد وربما التصفية الجسدية. لقد ابتدأوا بنجيب محفوظ وعادل إمام، ولكن أين سينتهون؟ هل سيتوقفون عند هذا الحد؟ لا أعتقد. ربما نبشوا لاحقا طه حسين وتوفيق الحكيم وحتى الشيخ الإمام محمد عبده! من يعلم؟ بل ربما عادوا إلى الوراء قرونا طويلة ونبشوا الفارابي والرازي وابن سينا وابن رشد وابن عربي والتوحيدي والمعري وكل أمجاد العرب السابقين.. هؤلاء أيضا «عار على الإسلام والعرب»، وليس فقط نجيب محفوظ أو عادل إمام أو أحمد عبد المعطي حجازي أو جابر عصفور أو جمال الغيطاني وبقية الأنوار المصرية. ربما حرقوا كتبهم من جديد في الساحات العامة. وعلى أي حال، فلا أحد يتجرأ على الاستشهاد بهم في كليات الشريعة والمعاهد الدينية. وربما لن يتجرأ أحد مستقبلا على الاستشهاد بهم في كليات الآداب أو الفلسفة، هذا إذا بقيت فلسفة. وما حاجتنا إلى الفلسفة إذا كنا نمتلك الحقيقة المطلقة؟ هل يتعلم من ختم العلم مرة واحدة وإلى الأبد؟ نحن الأمة الوحيدة في العالم التي ليست بحاجة إلى علم أو ابتكار أو بحث. كل هذا بدعة مذمومة. إذن، كل هؤلاء الكبار زنادقة كفار في ميزان السلفيين. انظر إلى الكتب التي تكفر ما لا يقل عن مائتين أو ثلاثمائة مثقف عربي معاصر، بل وتفتي بقتلهم وتطهير الأرض من رجسهم. وبالتالي، فالمعركة قديمة، لا تزال متواصلة فصولا منذ أكثر من ألف سنة: أي منذ اندلاع الصراع بين المعتزلة والحنابلة أيام المأمون، ثم بين الغزالي وابن سينا، ثم بين ابن رشد والغزالي: «تهافت الفلاسفة» مقابل «تهافت التهافت». ألف سنة ولم يستطع العرب أن يحسموا المعركة! هل يعقل أن تستمر معركة معينة مدة ألف سنة؟ كم سيكون رهانها عظيما؟ والآن عادت إلى المربع الأول، إلى نقطة الصفر، وكأن شيئا لم يكن.. إنها قصة سيزيف. هل سمعتم بأسطورة سيزيف اليونانية الرائعة والمحبطة للآمال كليا؟ كلما رفع السيد سيزيف الصخرة إلى أعلى الجبل بجهد جهيد وكاد يصل بها إلى القمة لكي يضعها عليها وتستقر، راحت تفلت من يده وتتدحرج إلى أسفل الوادي، فيعيد الكرة من جديد.. وهكذا دواليك.. يبدو أن قوانين التطور التاريخي لا تنطبق على العالم العربي الإسلامي، أو قل إنها تنطبق عليه بالمقلوب: الآخرون يشعلون ثورات تنويرية، ونحن نشعل ثورات سلفية - إخوانية. ونحن بين نارين: نار الاستبداد السياسي، ونار الاستبداد الديني. فقلت هما نقلا عن الشرق الاوسط