سماء من صفائها وحيويتها سعيدة بالشمس والنجوم وتشعر أنك تراها للمرة الأولى، الشواطئ من حسن بكارتها تبحث عن عشاق ليسوا من سلالة فرعون وقومه، بحر يبعث على أمل في حياة أحمر عجوز مثقل بأوجاع القراصنة، وعبث الكارهين للطبيعة، وإقطاعيين يقضمون من جسده حتى ضاق على الناس. ملتقيات خلجان عَقَدت صداقة مع بحر وصحراء، نسائمها معطرة بهبائب طور سيناء، وبركة الوادي المقدس، الأجواء هادئة والناس شبه محترمون، والباحثون عن الاسترخاء يُعدون بالآلاف، غالبيتهم تركوا «بوتين» يصارع الدببة ويحتفل ب«الدان الثامن» في لعبة الجودو، لكنهم معجبون بإدارته لروسيا الاتحادية الجديدة، وسعيدون بمحبته القاسية للوطن والشعب، ويرون في «بوتين»، جدية ومثابرة لتحقيق النمو الاقتصادي والزراعي والصناعي والعلمي لإعادة أمجاد التاريخ القيصري في عباءة ديموقراطية منفتحة على العالم بفكر وأسلوب جديد. إلا نحن العرب؛ من مشرقنا لمغربنا نذهب في رحلة بحث عن استرخاء بعد عناء وتعب، وإحباط يقاوم بصيص الأمل، ونواجه أننا أمام، إما صمت الحيلة والمكيدة أو ضجيج الحسرات والفوضى... هذا قدرٌ عربي؛ الظلم يبدأ من الإنسان نفسه لنفسه، (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). على رغم أخطار وتحديات تهدد مستقبل الأمة ووجودها، العمل قليل، ولا يعلو صوت فوق أصوات أبواق عربية، كاذبوية، وخادموية، ونفعوية، وفلولية، المريدون للدفع للأمام تاهوا وخفتت أصواتهم في معمعة الأكاذيب؛ الحرية كانت قبل الربيع العربي تقال في الزوايا همساً، واليوم الدكتاتورية تختبئ – ولم تنتهِ - في أنسجة من خسروا ظلال حكم فاسد بني ملكه على أرزاق الفقراء. الشارع العربي منتصر ومهزوم في آن، انتصر على من عقد صفقةً مع الفاسدين وكتم أنفاس الحرية، وهزيمته يقودها من ضاق ذرعاً بنزاهة الصناديق الانتخابية، غلبت عليهم شقوتهم للعودة لتوابيت نهلوا من معينها وتربوا على ثقافتها الأحادية عقوداً طويلة، حتى رهنوا مستقبل الأمة لقوتين تعتمران عمامة وطاقية، تخبئان رؤوساً نووية، ومصير الأقوياء - من سيرة التاريخ - إلى اتفاق على إخضاع الضعفاء لإرادتهم وإملاءاتهم! بعد 48 ساعة مقاطعة للضجيج الإعلامي، أدرت جهاز التلفاز فوقعت في شر أعمال المنتوج الإعلامي العربي، مقدم برنامج تلفزيوني مشهور بأجندته الفوضوية يصيح بأعلى صوته «إنت كويس آه، شريف ما قلناش حاجة، بس إنت مش قدنا، مصر أكبر مِنّك، إرحل أحسن لك»، وكان يوجه صراخه العبثي لرئيس الوزراء المصري الدكتور هشام قنديل؛ غياب تام لصوت الحكمة والعقل، وهو لا يعرف أن الخوف من الكذب هو الصدق بعينه، ولكنه يعرف أن في السياسة صديقاً وحيداً هي المصلحة، ومن أصعب محطات حياة السياسي الشريف أنه ينتهي محكوماً عليه بمن هم أقل منه. التقيت بعد يومين من رحلتي إلى شرم الشيخ، بإعلامي أكاديمي مصري يحمل رسالة الوقار الإعلامي، فهي جزء من شخصيته وثقافته وتربيته، يبعث في النفس الراحة والطمأنينة من الوهلة الأولى، متجرد من المذاهب السياسية قديمها وحديثها، ترحاله المتواصل غرباً وشرقاً حصنه من التبعية، كما فهمت وأحسست من طرحه ورؤيته. الحديث معه تم قبل الإعلان الدستوري للرئيس محمد مرسي، وسألته عما يحدث على الساحة المصرية السياسية والاجتماعية، وتقويمه للموقف، فقال: ثورة 25 كانون الثاني (يناير)، نجحت في كسر جمود المجتمع المصري، وأعادت إليه الحيوية والنشاط والأمل، هذه حقيقة، ولا بد للشعب المصري بمختلف مكوناته واتجاهاته أن يتحمل الصيرورة إلى ثقافة جديدة من حرية وديموقراطية صنعتها ثورة، ولكن محك النجاح والفشل يكمن في قدرتنا وإرادتنا على تحمل نتائج الحرية وصناديق الانتخابات النزيهة، التي لا يمكن أن تُفرز إجماعاً، وهذا ما نراه في دول سبقتنا علماً ومعرفة وتجربة، وما يحدث في مصر الآن قد ننظر إليه بالعقل والمنطق أنه نتيجة طبيعية لتراكم أعباء ومتغيرات ثقيلة جداً جثمت على صدور الشعب المصري عقوداً طويلة؛ ولكن الأهم كيف نستطيع أن نتجاوزها، وما الكلفة والمدة التي سنستغرقها لتجاوز إفرازات التغيير التي أحدثتها الثورة؟! لكنني مرتاب مما أسمعه وأشاهده وأقرأه في وسائل الإعلام المصرية، هناك قلق مشروع، ولكن الأخطر ما يتحدث عنه العقلاء من انتشار ظاهرة الكذب والافتراء وقلب الحقائق بصورة عميقة، وتأثير ذلك على مسيرة ثورة رفعت شعارات الرفض للظلم والقهر والاستبداد والفساد، وتطالب بحقوق الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة للإنسان. أجابني: بناء دولة ديموقراطية مدنية حديثة، لا بد أن يمر بمرحلة مخاض عسيرة وقد تكون صعبة وتحتاج إلى زمن لإخراج الفساد المستوطن في بنية الاقتصاد ومكونات مؤسسات الدولة، والحراك والتدافع مهما كان مؤلماً، فسيُظهر الزبد الذي سيذهب جفاءً، وما ينفع الناس فسيمكث في الأرض. ولكن أيها الخبير في الإعلام، المشكلة الكبرى في مصر ووطننا العربي، هي غثاء الألسنة، التي تنطق بالكذب والنفاق والخداع، وتقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً! أجابني بصوت الواثق: عندما تنجح مقاصد الثورة في التغيير الاقتصادي والاجتماعي، والاطمئنان إلى العدالة الاجتماعية وكرامة العيش والمواقف والتعبير، سيضمحل الغثاء الألسني - إن جاز التعبير - وسيتحول إلى ظاهرة شاذة، راقب المشهد التركي وستتأكد من صحة النتيجة. هل يمكنني القول إنها رقصة الموت الإعلامية الأخيرة لفلول الفساد؟ علق مبتسماً؛ هي الرقصة ما قبل الأخيرة، وهي ليست محصورة في فلول الفساد، بل ومن يسعون أيضاً إلى تحقيق مكاسب بأي طريقة وأي ثمن! ولكن المشكلة العظمى يا أستاذي أنها وصلت إلى منظومة القضاة، أجابني قبل أن أودعه: العصمة لله وحده. وبعد كل الذي حدث الأسبوع الماضي وما يحدث الآن، أعتقد أن هناك قوة لا يُستهان بها، تسعى لفرض أنموذج مختلط جديد وتزاوج بين، توابيت الانتخابات «المباركية»، وصناديق انتخابات ثورة 25 كانون الثاني (يناير) الحرة، وما بين معركة التوابيت والصناديق هناك أسرار داخلية وخارجية ربما تكشفها الأيام! * كاتب سعودي. [email protected] @alyemnia