بعد آخر انتخابات جرت في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك عام 2010، كتبت مقالاً وصفت فيه مشهد صناديق الانتخابات محمولة على أعناق أعوان الحزب الواحد، ب «التوابيت» التي صُودرت بعد يوم مزيف طويل، مشمعة إلى زنزانات الحزب الوطني الحاكم لإخضاعها إلى مرحلة النفث السياسي وفق أحكام رقية شرعية قُضاتها وسياسييها وعسكرها يأتمرون بإرادة الزعيم المُسَيّر لوجهتها وتوجهاتها وشخصياتها المنتخبة من أجل الإعداد لمرحلة التوريث التي تداعت في ثورة ميدان التحرير. الحال المصرية اليوم مختلفة في كل شيء، الساحة السياسية والاجتماعية والإعلامية مفتوحة على مصراعيها للتدافع بين القوى المختلفة من أجل التغيير والقضاء على تبعات الدكتاتورية التي أدارت البلاد والعباد أكثر من ثلاثة عقود بعقل وصوت حزبي واحد؛ وبعد هرج ومرج ومخاض عسير متوقع مع المجلس العسكري، فُتحت صناديق الحرية أمام الشعب المصري بمختلف مكوناته وطوائفه وتوجهاته للتعبير عن إرادتهم لاختيار أعضاء البرلمان المصري المقبل بعد ثورة التطهير التي انفجرت في 25 كانون الثاني (يناير) 2011. ما من شك في أن الشعب المصري عاقد العزم على إنجاح الانتخابات، مهما تكن التحديات الانتخابية، وبلوغ نسبة المشاركة في المرحلة الأولى من الانتخابات 62 في المئة دليل على شحنة إرادة التغيير التي يتطلع إليها المصريون، ولكن المقلق واللافت للنظر هو غياب الرؤية بين القوى السياسية التي أشعلت الثورة، وعلى رأسهم الشباب المستقلون والإخوان المسلمون والسلفيون واليساريون والناصريون، مع خطورة فتنة تظهر بين الحين والآخر بين المسلمين والأقباط؛ التدافع الانتخابي للظفر بأكبر عدد من المقاعد بين الأحزاب والأفراد المستقلين مشهد ديموقراطي حضاري، لكن في ظل الانقلاب الواضح في زعامة المشهد السياسي، وسقوط شرعية ميدان التحرير وبدء مرحلة شرعية البرلمان، هل سيُفضى لاضطرابات محتملة بين التيارات الإسلامية والليبرالية والعلمانية وحدوث تنافر يُحَوّل مكاسب الثورة إلى أعباء وخسائر يعود بعدها الترحم على ماضي الديكتاتورية بمعاناته ومآسيه، ودخول خيارات الشعب إلى غيبوبة المثل العربي، «على نفسها جنت براقش»؟! الديموقراطية قيمة حضارية عظيمة إذا استغلت فتحاً لحقوق المواطنة والمساواة وقهر الفساد وقبول التعددية والإقدام على نهضة الدفع للأمام للارتقاء بمستوى الشعوب؛ وخرابٌ للديار إذا انكفأ النزف النضالي في أفق ضيق لصراعات أيديولوجية وتصفية حسابات وكراهية المنافسين والحقد عليهم؛ فالحياة الاجتماعية - كما قيل - «عبارة عن خيط وسكين»، الخيط يربط الناس بعضهم ببعض، والسكين تقطع الرباط بينهم، والتنازع والتعاون عضوان لا يفترقان ووظيفة كل منهما أن يخفف من حدة الآخر. الموازين المصرية مثقلة بالفساد والبطالة وتلوث البيئة والترهل الاقتصادي، وغياب الرؤية الاستراتيجية للتخطيط للمستقبل، وانفجار سكاني تراكمت أعباؤه وحاجاته على مدى ستة عقود؛ وحل مشكلاته يتطلب عدلاً لن يتأتى إلا في ظل توازن قوى الخصوم المتضادة، لأن خلل العلاقة مرض إنساني سيُنتج التسلط والانهيار مرة أخرى إلى القاعدة الصفرية. نظرية نسوية قديمة متجددة تقول، إن الوصول على قلب الرجل يمر عبر معدته، والفكر الأردوغاني تربع على قلوب الأتراك بعد أن مر على الأفواه والأمعاء، فغاب الانتقام والفوضى وتصفية الحسابات وحل مكانه الازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي وقوة النفوذ السياسي، وكان ذاك انتصاراً للنظرية الغنوشية التي نهل منها معرفة الرئيس التركي عبدالله غل ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان؛ والغالبية الساحقة من الشعب المصري تنتظر من يُحول الفقاعات المتتابعة والهرطقات الاقتصادية النفعية التي سيطرت على المجتمع والحياة العامة إلى خطط إستراتيجية وبرامج ومشاريع عمل نهضوية تستثمر الطاقات البشرية الهائلة في العمل والإنتاج وتوطين الاقتصاد المعرفي وتوسيع قاعدته، ولكي تتحقق غايات الشعب المصري وأمانيه لابد أن يبحث عن الرجل الصادق في ما يقول وما يفعل ليختاروه رئيساً، رجل ذو تجربة ورؤية مليء بالعطاء والإحساس والسعادة ليختاروه رئيساً للوزراء، لأنهم أي الشعب المصري ليسوا بحاجة إلى مُنَظّر في الأيديولوجيات، ومُبدع متلذذ في تصنيف قادتها ومفكريها، ولا بد من السعي الحثيث لإخماد فتنة الخطب الموروثة من العهود الناصرية والساداتية والمباركية، التي أشبعتهم آمالاً ووعوداً وأوهاماً بالصدارة، تحولت بالحقائق والأرقام إلى أكاذيب وخزعبلات أعادتهم لأزمنة متخلفة. السلطة والمال تنتظران القوي الأمين، والصدق في حياة المصريين ثورة بيضاء طال انتظارها، ولن يتحقق المنال إلا بخروج الفاسدين من القلوب وتحطيم بنية الفساد على أرض الواقع، وإغلاق منافذ الجدل، وفتح أبواب التلاقي على نزاهة القصد، والتفاني من أجل خير المبادئ، والتدافع بثقة مطلقة بالعقل ومقدرته على التألق والإبداع. ثرثرة السياسيين العرب ثقافة وهمٍ بالمعرفة، وثقافة اليابانيين والكوريين ضعف في الثرثرة ويقين بالمعرفة، لذلك هم وصلوا ونحن العرب ما زلنا في معمعة البحث عن «القوي الأمين»، لأن المجتمعات العربية بحاجة إلى التخلص من واقعها السيئ المليء بالمتناقضات والمشاحنات والتخوين؛ والمصريون وهم يمثلون الثقل العربي تاريخاً وحضارة وقوة بشرية على محك تاريخ مفصلي، فإما التقدم نحو التجديد والعصرنة، أو الغرق في تفاصيل يسكنها شياطين وفاسدون وأعداء للأمة. * كاتب سعودي. [email protected] twitter | @alyemnia