الديموقراطية قيمة حضارية عظيمة إذا استغلت فتحاً لحقوق المواطنة والمساواة وقهر الفساد وقبول التعددية والإقدام على نهضة الدفع للأمام للارتقاء بمستوى الشعوب، والخراب للديار إذا انكفأ النزف النضالي في أفق ضيق لصراعات أيديولوجية وتصفية حسابات وكراهية المنافسين والحقد عليهم. الحياة المصرية الحالية مختلفة في كل شيء، الساحة السياسية والاجتماعية والإعلامية مفتوحة بعد اختناق دام طويلاً، والوطن مثقل بالفساد والبطالة وتلوث البيئة والترهل الاقتصادي وغياب الرؤية الاستراتيجية للتخطيط للمستقبل، ومواجهة ثقيلة مع انفجار سكاني تراكمت أعباؤه وحاجاته على مدى ستة عقود، وحل مشكلات الشعب المصري يتطلب عدلاً لن يتأتى إلا في ظل توازن قوى الخصوم المتضادة، والانصراف إلى العمل الجاد في التطوير والإنتاج، بغض النظر عمن ظفر بعضوية المجلسين أو الرئاسة ومن خسرها. ثورة 25 يناير حطّمت التوابيت الانتخابية التي ظلت مسيطرة على الحياة السياسية في جمهورية مصر العربية لما يزيد على خمسة عقود، تلك التوابيت التي أزهقت طموحات وآمال الشعب المصري في التغيير، وجَمّدت إرادتهم عند فوضى الإحباط وفقدان الأمل، بعد أن حَنّط بداخلها الحزب الواحد نتيجة ال 99 في المئة الفرعونية! الشعب المصري بكل طوائفه ومكوناته وطبقاته على المحك، بعد أن تنفس الحرية الكاملة، وصنع إرادته بثقافة ونكهة مصرية من دون وصاية أو فروض للقوة من خارج الحدود، ومن تسول له نفسه أمراً للوصاية أو اختطاف مكتسبات الثورة، فالشعب المصري قرّر أن يكون على موعد معه في ميدان التحرير، ليس لاستعراض القوة بل إصرار على تقرير مصير. يوما 23 و24 من أيار (مايو) 2012، مصر الحرة الثائرة الجديدة على موعد مع أول انتخابات رئاسية بعد ثورة 25 يناير، والعالم كله سيرقب أين سيتجه الشعب المصري في الداخل والخارج لصناعة مستقبله وتوجهاته؛ ومنها سيستمد كيفية التعاطي مع مصر بعد الثورة. أمامكم أيها المصريون أمانة المكانة والكرامة لوطنكم الكبير، وأنتم وحدكم من يعرف ماذا حل بمكانة الدولة وسمعتها وموقعها التاريخي ونفوذها الإقليمي والدولي، وكيف أصبحت بعد أن كانت هي من يُملِي يُملَي عليها، وبعد أن كانت تُطِعم من خيرات أرضها أصبحت تُطعَم من صناديق صفراء وسوداء ظاهرها المساعدات وباطنها التحكم في مصير الأمة والقرار؟! أمامكم يا شعب أرض الكنانة كرامتكم وعزتكم وحرية قراركم وصوتكم العالي الذي خفت عقوداً طويلة بأسباب الهزائم النفسية التي وضعكم فيها حكام أهملوا الوطن واختزلوا مصالحه ومصيره في رسم سياسة البقاء على الكراسي الخشبية لمن يرضى بالخنوع ويحذف من قواميس لغته وثقافته «لا» حرف عذاب المناضلين بالكلمة الذي دمر الأمة العربية ولا يزال وجعلها تعيش في سبات التخلف والرجعية. أمامكم يا ثوار 25 يناير، سور المستحيل الحصين الذي شيّده على مدى ستة عقود أباطرة الوعود الزائفة والخطب الرنانة، وأساتذة نظريات الإحباط التي زُرِعت في كل شبر من أرضكم، ولوثت نهر النيل الخالد وحولته إلى مثير للرعب من حروب مصيرية مقبلة قد يجف على إثرها، لصرف الأنظار على حركة الإقطاع السوداء التي دمرت حياة وتاريخ الفلاح المصري وهَجّرته عاملاً إلى صحارى المياه الجوفية. أمامكم يا من تنتمون إلى أقدم حضارة على الأرض، فرصة تاريخية قد تكون نادرة لإعادة الأمل وقيادة ثورة بيضاء للتجديد واللحاق بركب الدول الصناعية الكبرى، ومصر مؤهلة لما تملكه من طاقات بشرية هائلة فقدت التأهيل والتدريب والتخطيط لاستثمار قدراتها وإمكاناتها الإبداعية الكامنة، وها هي الهند الشبيهة بظروف مصر تنطلق إلى خريطة القوى الاقتصادية المؤثرة عالمياً في المعرفة والإنتاج، ومصر التاريخ والحضارة عناوين دُوّنت في الكتب، وفي الواقع لم تستطع أن تنتج جهاز هاتف محمول؟! المهم وما أتمناه في الانتخابات المصرية التي ستحدث بعد يومين ألا تنتصر العاطفة نحو مرشحين بريقهم في تفوقهم الحالي وربما المستقبلي في عدد المؤتمرات واللقاءات الصحافية إلا أنهم مهما بلغوا من الوعود سيعيدون سيرة العهد البائد المميز بالبرود والطنطنة السياسية والتنموية التي أوصلت البلاد إلى حالة التدهور والفوضى والإحباط؛ والمصريون ليسوا بحاجة إلى «أبو الكلام» فقد سمعوا حتى فاض بهم وملّوا، ما أحوجهم إلى «أبو العمل» ذي الرؤية الثاقبة والتخطيط الاستراتيجي الأمين على مستقبلهم ومستقبل بلادهم لنقلهم إلى المكانة التي تليق بهم ويليقون بها. كنا وكان العالم من حولنا نضع لوم التقهقر والتخلف الذي عاشته مصر ولا تزال، على حزبٍ وحكمٍ فرض نفسه بقوة سلطة أجهزة الأمن وتوابيت الانتخابات، واليوم بعد انتخابكم لأعضاء مجلسي الشعب والشورى بمحض إرادتكم، ستتوجهون بعد غدٍ إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيسكم المقبل، فماذا أنتم فاعلون؟ * كاتب سعودي. [email protected]