يختصر اسم مهرجان «الفياك» الخريفي السنوي بأحرفه عبارة: «السوق العالمي للفن المعاصر». تمثل عروض دوراته التسويقية منذ عقدين سباقاً عالمياً بين الصالات الكبرى المحترفة والخاصة بعرض الفن المعاصر. تحتشد خلال هذا الوقت القصير برامج مكثفة وعروض أجنحة وُزعت على طبقتين، تتزاحم في الفضاء الرحب لأبرز موقع للعرض وهو القصر الكبير في وسط حي الشانزيليزيه في العاصمة الفرنسية. تتزاحم فيه الأجنحة و «ستاندات» صالات العرض المرقمة (وصل عددها هذا العام إلى 182 مشاركاً) منها 41 صالة نتعرف إليها للمرة الأولى. تتداخل أقسام العرض وصالاته بخريطة موسوعية متاهية متقاطعة الممرات، وزعت على الزوار بسبب تعقيد توزعها، وبسبب قصر مدة العرض فالنشاط على أشده ليل نهار. لا يتناقض هذا الوقت المختصر مع غلاء بطاقة الدخول (تتجاوز أربعين يورو) لأن المهم بالنسبة لمنظمي السوق هو الزائر الاقتصادي أو السياحي والبنكي النخبة، هي المناسبة التي تجذب كبار أصحاب المجموعات الفنية وصغارهم. والوافدون من شتى أنحاء العالم، يتزاحمون ويتنافسون في الاقتناء وإغناء مجموعاتهم، وإذا تراجع أهل الشهرة الأوروبية بسبب ضغط الأزمة الاقتصادية، فإن التعويض يفد من مستثمرين جدد، هم أنفسهم الأغنياء والموسرون الجدد الذين ترافقوا كمحدثي نعمة مع خريطة الازدهار الجديد، ما بين هونغ كونغ الصين وساوباولو البرازيل (أي مع صعود بعض اقتصادات دور أميركا اللاتينيّة)، ناهيك عن بعض المقتنيين أو العارضين العرب الجدد، مثل صالات دبي في الإمارات العربية المتحدة. أقول على رغم هذا التفاوت في الإقبال فإن اليوم الرابع سجل أكثر من ثمانين ألفاً من الزوار، ناهيك عن انتعاش بنوك الإقراض وشركات التأمين والنقل والصندقة (الأنبلاج)، وكذلك الشركات السياحية. يتمركز ضمن حشد الكشوف المتراصة القلب وهو صالة الشرف المركزية التي تقع تحت القبة الزجاجية الكبرى للقصر العريق، وذلك ضمن فناء تصل قامة ارتفاعه حتى 17 متراً، وتصل مساحته إلى الألف ومئتين من الأمتار المربعة. يتفوق بالإجمال عدد المشاركين الفرنسيين (بصفتها الدولة المضيفة) على المشاركين من بقية العالم، بحيث يمثل عددها ما يقرب من ثلث العدد الإجمالي، للولايات المتحدة فيها نصيب الأسد ممثلة بثلاثين صالة عرض (الأشد شهرة وسلطة) يليها الألمان ب24 صالة، واقتصر نصيب لندن على ثماني صالات. مع ذلك فإن هناك 41 صالة تشارك للمرة الأولى، تتحرك هذه المشاركات كما ذكرت بين المونوبولات المتباعدة خصوصاً الصاعدة اقتصادياً منها مثل البرازيل وهنغاريا، والمكسيك والدنمارك، الصين واليابان وتركيا وبولونيا والإمارات ورومانيا. أما الصالات غير المعروفة والتي تدعى «الشابة» فقد خصص لها جناح خاص، وتميزت كالعادة بطزاجة عروضها وشجاعتها بعكس الصالات الكبرى المعروفة الخجولة والتي تقتصر غالباً على أسماء النجوم من الفنانين المتوفين وهو ما يعرف «بالقيمة الثابتة» على رغم غلاء أسعارها. برز في هذه الدورة بعض الأعمال والأسماء الإيطالية المعروفة مثل التجريدي فونتانا منيني وكذلك بعض معلمي التجريد الغنائي في مدرسة باريس وعلى رأسهم جان بازين ناهيك عن إعادة الاهتمام بأعمال الوهم البصري (مثل دييز) والتعبيرية الألمانية على نموذج كريشنر. وترسخ التنافس بين اللوحة ووسائط ما بعد الحداثة من فيديو وفوتو، ومن إنشاءات و«برفورمانس وديزاينر». يتساءل البعض بخصوص عناصر الجدة في هذه الدورة مع أنها أخرجتها من الروتين الاستهلاكي البيروقراطي المكرور كل عام. ويتفق نقاد على أنه روتين يتمثل ببساطة من خلال السيطرة الثقافية الاجتياحية لشتى مواقع العرض بحيث تتجاوز أهمية ما يعرض خارج حدود جدران القصر الكبير عما يعرض في داخله. بدليل أن بعضاً من برامج هذه الامتدادات يستمر في العرض كما هي حال عروض حدائق التويلري التابعة لمتحف اللوفر، ناهيك عن تأخر الاحتفاء بجوائز مارسيل دوشامب (مؤسس الدادائية في بداية القرن العشرين) بحيث يقع بعد انتهاء العرض الرسمي بأيام عدة. إن حدثية المهرجان لهذه الدورة يتجاوز قصر الوقت الخاطف المخصص له، بخاصة أنه يجتاح حساسية الموسم الخريفي عموماً في باريس. تعصى برامج امتدادات المهرجان على الإحصاء، تجتاح مثلاً الخريطة الإلكترونية للإنترنت في خمس محطات فضائية. توسم بعض هذه العروض بالأيكولوجية والتي تتفوق في رؤيتها الكونية على العروض المركزية، تقع بين رحاب حدائق التويلري المذكورة وحديقة النباتات الوحيدة في غلافها الزجاجي. وهناك عروض كيفية ومبعثرة للبروفورمانس، هو الذي يعتمد على العرض الطقوسي المباشر والزائل بحضور الجمهور، على غرار احتفاءات المصري حسان خان في موسيقاه الشعبية، وهنا نعبر إلى صفة التوليف بين السمع والبصر في هذه العروض، وهكذا تفقد حدائق اللوفر مهابتها الكلاسيكية عابرة إلى طيش ومخاطرات تجريبية وسائط ما بعد الحداثة. حيث يتحالف الصوت مع البصريات المحدثة على غرار عروض كل من كارلوس دييز وكلودكلوسكي. إذا تعرضنا جزئياً إلى الامتداد المباشر لعروض «الفياك» فلا بد من التصدي للامتداد غير المباشر عبر التظاهرات الكبرى المتزامنة سواء في كبريات الصالات العامة أو الخاصة، ابتداءً من عروض صالون الخريف العريق وانتهاءً بمعرض معهد العالم العربي: «25 عاماً من الفن العربي المعاصر»، مروراً بعروض البروفانس في متحف مركز بومبيدو. وهذه هي المرة الأولى التي تدعى فيه الصالات العربية الكبرى لتجري عرض رهاناتها في قاعات «معهد العالم العربي» حتى بدا المعرض وكأنه مخطط ل «الفياك» على قياس النشاط العربي وبمناسبة أيضاً مرور 25 عاماً على تأسيس هذا الصرح العربي الباريسي. هكذا، تبدو امتدادات دورة «الفياك» هذه المرة أشد إثارة من سوقه المحصورة تحت سقف القصر الكبير.