قصفت القوات الإسرائيلية عام 1970، مدرسة في قرية بحر البقر بمحافظة الشرقية المصرية، فقُتل ثلاثون طفلاً وأصيب عشرات آخرون. يومها كتب الشاعر صلاح جاهين قصيدة «الدرس انتهى، لمّوا الكراريس، بالدمّ اللي على ورقهم سال»، ولحّنها سيد مكاوي لصوت شادية، وصارت الأغنية من أيقونات الصراع مع إسرائيل. وها هي إذاعات مصرية، تعيد بثّ الأغنية ذاتها اليوم، وكلماتها تُستعاد في مواقع التواصل الاجتماعي مُصاحبةً رسوماً حزينة وصوراً لحادثة اصطدام قطار بحافلة مدرسية في أسيوط، أودت بحياة نحو خمسين طفلاً دون سن العاشرة. بقدر ما قد تبدو الملاحظة أعلاه تفصيلية في سياق ثقافة يومية، فهي ليست بسيطة إذا ما عُطفت على سلسلة تلت الحادثة المفجعة: «إطلع برّا» التي هتف بها الأهالي لرئيس الحكومة هشام قنديل، أمام مستشفى أسيوط، حتى انصرف قبل أن يتمكن من إجراء زيارته البروتوكولية. ثم آلاف التغريدات والتعليقات والمقالات التي قرّعته، وهو العائد لتوه من مستشفى «الشفاء» في غزة، مذكّرة إياه بأن سلامة المصريين وأطفالهم أولويته. ناهيك عن الهجوم على الرئيس محمد مرسي الذي يواجه، وتياره السياسي، رأياً عاماً مطالباً، ويُعلي الصوت برفض حكم «القضاء والقدر» سنّة لدولة تشبّعت اهتراء. ولا تُغفَل طبعاً أحداث سيناء وشارع محمد محمود. هو وعي يزداد تغليباً للأزمات الداخلية. سُحبت أغنية «الدرس انتهى» من جبهة مع إسرائيل، إلى جبهة مصرية ضد التسيّب... المصري. كأن إسرائيل، التي لم تفلح معاهدة «كامب ديفيد» في طمسها كعدو أول في المخيلة الجماعية، تتراجع «نجوميتها» في الخطابين الأهلي والنخبوي على حد سواء. الإهمال واللامسؤولية، تعفّن البنية التحتية للدولة والمؤسسات، عناوين ترتقي. الرقابة متصاعدة على أداء سُلطة ما بعد الثورة التي لا يبدو إن الناس استكانوا عند خواتيمها، بل لعلهم لم يختتموها بعد. ولمّا تجلّت المطالب الوطنية (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) دافعاً ل «دومينو» الربيع العربي، من تونس إلى سورية وأخيراً الأردن، فإن حركة عامة تستمر. وجدان جمعي يصعّد «وطنية صغرى» بدل «الأمة» و «الوطن الحبيب الأكبر». فلسطين، حتى في عزّ مصاب غزة الذي يستحق كل تضامن، تتحرّر من «مركزيتها» التي ربما ظلمت شعبها قبل غيره... ومجتمع لا يناصر نفسه، لا يسعه أن يناصر أي قضية أخرى مهما كانت أخلاقية. ثمة، في مصر وتونس وحتى في سورية، معارك حيوية، لا تحتاج عقوداً، وممكنٌ الفوز بها. شعور عزّزه سقوط أنظمة ورؤساء، وإن بانت قاسية تحديات اليوم التالي. هنا معارك من أجل التعليم والحقوق المدنية والخبز النظيف، ضد الفساد والطغمة، في الشارع والحي والمدينة. الشاب السوري، مصطفى كرمان (30 سنة)، الذي قتل أخيراً في تفجير بستان القصر – حلب، معروف لرفاقه كأبرز النشطاء السلميين. لطالما رفض (كما أصدقائه في نعيه) تصنيفه «معارضاً شيعياً». كان، قُبيل مقتله، يدعو رفاقه إلى افتتاح مدرسة جَهد لتأمين مقوماتها رغم المأساة الدموية الدائرة. وبالعودة إلى مصر، فإن تغريدات نائب رئيس حزب «الحرية والعدالة» عصام العريان، التي تساءل فيها إثر حادثة القطار الأخيرة: «أين البرلمان؟»، ومثلها تعليقات سلفيين لامت «سائق الحافلة العلماني» لأنه لم يتلُ «دعاء الركوب» قبل الانطلاق بالأطفال ليحميهم، نالت نصيباً جماهيرياً وافراً من السخرية والشتائم. ما عادت هذه المفارقات لتمرّ. وإن ذهبت مَصرَنة الغضب حدّ المغالاة (المُجفِلة)، في إشارة عدد من مستخدمي مواقع التواصل إلى «تفوّق» عدد الضحايا من الأطفال المصريين على عدد أقرانهم في غزة، بل وخلط صُوَر الأخيرين بكارثة الأولين (معيار كمّي مخيف اعتمده أيضاً بعض مناصري الثورة السورية)... فإن تلك الظواهر تبقى هامشية وسرعان ما تنظّف الأوعية الوطنية نفسها منها. والحال، إن مدلول «الدرس انتهى» يُستكمل في الشعار الشهير «ع القدس رايحين شهداء بالملايين»، إذ أصبح، في رسم مؤثّر بالأبيض والأسود لحافلة تقلّ أطفالاً باسمين: «ع المدرسة رايحين شهداء بالملايين». * صحافية من أسرة «الحياة»