أن يعيش المرء في القرن العشرين ويتصرّف ويعمل ويحب ويتزوج، وكأنه في القرن التاسع عشر، فهذا شيء يُثير الاستغراب والدهشة. لكن لا! لا تجزع نحن لا نندهش. لا، كيف نندهش أو نستنكر أو نتعجب أو نشجع ونحن تنقصنا التلقائية؟ إذاً هناك انفصام في الشخصية، يا ساتر! نعم وانفصال تام بين ما نُريد وما يجب أن يكون، يا حرام! بين ما نحب وما يُريده الآخرون لنا. قد يكون السبب أننا مصابون بداء يُشبه أمراض فقدان الشهية، حتى لا أتوغّل وأتجرأ وأشبه أمراضنا بما يُشبه مرض نقص المناعة. وما المانع هو نقصان أو انخفاض، وما المانع ما هو كل ما نلمسه إما تنقص إنتاجيته أو ينخفض مؤشره أو تتقلص فعاليته «إلا أعمارنا ورزقنا هما ما يزيد»، فلنسمي مرضنا هذا فقدان التلقائية، نقصاً في الاندهاش، أو توتراً في التعبير، فحتى مدرّسو اللغة، واللغة العربية تحديداً ينقصهم التعبير ولا أدري كيف يسمون الفصل «درس التعبير» والوحيد الذي صار يعبّر فينا هو «جوالنا»! «عبّر». ونكاية بهم، لا أود التعبير من خلالهم، أنا لا أُريد أن أُعبّر أصلاً وأنا مصابة بمرض فقدان التلقائية، ومن علاماته تصحيح المشاعر ومراقبة الأحاسيس وقص الخيال وحذف الكلمات ومراقبة التفكير والحجْر على اللسان والعض على الشفة قبل النطق بخفّة. طبعاً فكل واحد يظن نفسه أنه على صواب تام وأنت على خطأ، أنا على خطأ يا عزيزي سامحني. لا، سينسى كل مليحة ويتذكر السيئة إذا عبّرت واعترفت، فاسكت لا تعبّر. من خاف سلم، وأنا بصراحة أخاف، سمّني جبانة، مئة مرة جبانة ولا مرّة على سلامتها. من يستأهل أن أُعبّر من أجله إذا كانت الوجوه كلها واجمة، لا ترى ابتسامة ولا تسمع شكراً ومهما أنجزت وحاولت لا تشجيع ولا رد جميل، وأنا كذلك مثلي مثلهم تنقصني الدهشة والاندهاش والإعجاب والتعجُّب، لا شيء يُثيرني. وجوه لا تضحك لرغيف ساخن، يحبون من البرامج النقط الساخنة ومن الأحداث الصيف الساخن. إذاً البرودة أهون، التحجُّر أو بمعنى آخر أن لا يُثيرك شيء وتصبح مثلي «لا تهتم حتى لا تشيل هم». اليوم الوقوف عند لوحة فنية يُشبه الوقوف عند إشارات المرور، سيان الفن والإشارات، فالقراءة في الكتب مثل القراءة في عيون الناس، ونحن لا نقرأ الكتب ولا السطور ولا ما بين السطور. دع الناس وشأنها، حتى الحب لا تعبير، فإذا عبّرنا عن حبنا إما أن يتركنا المحبوب أو يزداد في طغيانه، طبعاً رجل البراري والصحارى. هذا في ما يتعلق بالحب. لكن إن عبّرت عن احترامك لشخص ما، فإياك. أنت هنا متهم بالنفاق والمصلحة، ويا شرف كله شيء يُثير القرف، حتى اهتمامك بهم أو تعاطفك مع عواطفهم وعنايتك بمشاعرهم لقّبوك بالحشري «والملقوف»، يعني بكلمة أخرى سلبيين. نعبر فقط إن كانت الكلمات نابية أو الإشاعات كاذبة أو الأخبار ملفقة أو الانفجارات دموية. نعم، حد الانفجارات الدموية. ما الذي حصل لنا؟ أين كلماتنا في الحب والمحبة؟ أين الحوارات الأنيقة؟ أين الاندهاش لطفل يحبو أو إلى خطواته البريئة؟ أين التشجيع للإنجازات ولو كانت النتيجة 7/10 في فصل للتعبير في المدرسة الابتدائية. من يعيدني إلى الابتدائية، شرط أن تكون في القرن التاسع عشر؟ علني أعود عفوية تلقائية... وأعبّر. خلف الزاوية أرسلت عاطفتي وأشواقي لأقول أنت بمهجتي باق أنا مثل أوراقي ملوّعةٌ فاحرص وأنت تضم أوراقي [email protected]