قبل أيام صدرت دراسة تقول إن شعبية القنوات الفضائية العربية أثرت سلباً في مشاهدة القنوات الأرضية في الدول العربية. وأشارت الدراسة الصادرة عن «مجموعة المرشدين العرب» الى أن ثلاث دول عربية تستأثر بنصف عدد القنوات التلفزيونية الأرضية العربية (عددها 129 قناة)، وهي: فلسطين والعراق ومصر. ولأن مصر تمثل حالة استثنائية في شكل وعدد وتكوين قنواتها التلفزيونية، الأرضية منها والفضائية، فإنه يمكن اعتبار المشاهدة التلفزيونية فيها ذات معالم وسمات مختلفة. فعلى رغم أن المشهد الدرامي الذي تمكن متابعة ملامحه من أعلى الجسور المتاخمة للمباني والعمارات السكنية حيث تتراص الصحون اللاقطة في شكل لافت على الأسطح وخارج الشرفات، حتى يهيأ للناظر أن عددها يفوق بمراحل عدد الشقق الموجودة في كل بناية، إلا أن مثل هذا المشهد يختلف كثيراً في القرى والنجوع التي يسكنها الملايين من المشاهدين غير الفضائيين. صحيح أن الوصلات، القانونية منها وغير القانونية، ساعدت في زيادة أعداد مشاهدي القنوات الفضائية في مصر، إلا أن القنوات الأرضية ما زالت تتمتع بالأولوية في الكثير من المدن النائية وقراها ونجوعها، وهو ما يعني أنه يمكن الجزم بوجود سلالتين مختلفتين من المشاهدة: الأولى فضائية مطلعة ومنفتحة على العوالم الأخرى، والثانية أرضية شديدة الالتصاق بما يفرض عليها من مواد إخبارية ودرامية ودينية. فالقنوات الأرضية في مجملها ما زالت قنوات رسمية يبثها القطاع الإعلامي الرسمي، الذي ما زال يرزح تحت كم هائل من القيود وأسقف التعبير المنخفضة. صحيح أن طفرة هائلة طرأت على الديكورات، وهوامش التعبير والانتقاد، لكن تظل القبضة الرسمية الحديد متمكنة من مقاليد الأمور ومحددة لها ولمسارها. وبالتالي، فإن حياة المواطن «الأرضي» الذي لا يحظى إلا بمتابعة ما تمليه عليه الدولة من أخبار ومسلسلات ووعظ وإرشاد ستختلف حتماً عن تركيبة زميله ذي الخبرات الفضائية الخاصة. مثل هذه الفروق من شأنه أن يضيف مكوناً جديداً إلى الهرم الطبقي القائم أصلاً على أسس اجتماعية واقتصادية.وبمرور السنوات، يتأصل مثل هذه الفروق الطبقية الإعلامية في داخل الوطن الواحد، ويجد المشاهد الأرضي نفسه واقعاً أمام أحد خيارين لا ثالث لهما: فإما أن يكتفي بالوجبة الإعلامية المقررة عليه، ويهضم ما يقوى على هضمه، ويلفظ البقية وكأن شيئاً لم يكن، وأغلب الظن أن المحصلة النهائية ستكون مواطناً على درجة كبيرة من الرضا والقناعة النابعين من جهله بوجود عوالم أخرى أكثر اتساعاً وأعمق أثراً، أو أنه سيشعر بمرارة الفوارق الطبقية الإعلامية، فهو يعلم أن مواطنين آخرين ينعمون بما هو أكثر في جنة الإعلام، يشاهدون نقداً للحكومة فيشفى غليلهم، إذ يمتص جانباً كبيراً من غضبهم ويرون في نبرته اللاذعة ولسانه الطويل ما كانوا يودون أن يقولوه لولا قلة الحيلة. ومن ثم تتنامى مشاعر الاحتقان والغيرة والرغبة في التمتع بقدر مشابه من البراح الإعلامي الذي لا تقيده الأرض أو تعرقل حرياته.