الاثنين 8/10/2012: ثقل التاريخ وطأة التاريخ تشوّه الإيمان. كتلة من تراب تضيع فيها حفنة من ذهب. ننبش في التراب عن إيماننا، بعضنا يعثر عليه والأكثرون يفشلون فتبقى لهم نقمة التاريخ، يمضون أيامهم في حكايات حروب مضت وانقضت. تراب التاريخ يحجب الإيمان. نحمله على ظهورنا. نفقد خفة الكائن وفرحه وقدرته على العمل والإنتاج وتجديد الحياة على الأرض. وتراب التاريخ يدفعنا إلى الشمولية، نسلّم أمرنا إلى مفسّرين يصالحون حملان الماضي وذئابه في خطاب ماضوي جذاب. نرى في الشمولية مخلّصاً من الصراعات الصغيرة ومن الفقر المقيم، نتوهم ذلك ونسلّم أنفسنا إلى القائد الأوحد جنوداً صمّاً بكماً، وهو يحدد لنا الأعداء والأصدقاء ونقبل ذلك صاغرين هانئين. الشمولية رغبة العبيد أكثر مما هي فرض القائد. الثلثاء 9/10/2012: لبنان الضيّق مساحة لبنان 10452 كيلومتراً مربعاً، وهو استقبل ويستقبل، فضلاً عن مواليد من تبقى من سكانه الأصليين، نازحين من حلب بعد انحسار اقتصادها نتيجة افتتاح قناة السويس، ثم نازحين من دمشق بعد الفتنة الطائفية عام 1860، وتبعهم النازحون الأرمن والماردينيون من تركيا بعد مذبحة شارك في تنفيذها الأكراد، أواخر الحرب العالمية الأولى. وأعقبهم مسيحيو الاسكندرون حين ضمتها تركيا في ثلاثينات القرن الماضي. واستقبل لبنان فلسطينيين طردهم الصهاينة من أرضهم عام 1948، وفلسطينيين آخرين وصلوا من الأردن عبر سورية بعد ضربة تلقوها من الجيش الأردني. واستقبل لبنان نازحين من العراق مع محنة الآشوريين وفي مرحلة لاحقة هرباً من استبداد صدام حسين ثم من الاحتلال الأميركي، وثمة نازحون قلة أتوا من مصر حين لم يطيقوا تمييزاً دينياً يفرضه المجتمع قبل الدولة. والآن يستقبل لبنان نازحين كثراً من سورية المضطربة ينضمون إلى أخوة لهم نزحوا نتيجة القرارات الاشتراكية المتصلبة في عهد الوحدة مع مصر، والاستبداد الذي اعتمدته أنظمة البعث المتعاقبة. في لبنان تخمة سكانية لم تلفت أنظار قيادات تلهو بنمط الإنتاج السياسي، بل بنمط الإنتاج الطائفي. يجمع القائد أسماء التابعين ويقبض أثمانهم من جهات خارجية فيملأ جيوبه وحساباته المصرفية ليندرج اسمه في لائحة أغنياء العالم. أما التابعون لهذا وذاك من القادة فيتصارعون بحثاً عن رواتب أعلى وشرعية التابع. نستعير من وودي ألن: «لن يكون هناك مكان لتقديم العشاء إلاّ إذا قبلنا بمدّ طاولة الطعام على رؤوس أناس لا نعرفهم. وعندها فعليهم أن لا يتحركوا مدة ساعة بينما نأكل». ولبنان الذي يكاد يختنق بسكانه (نسبة المقيمين إلى مساحة البلد أسوأ من النسبة في قطاع غزة بنحو الضعف)، لا يزال يستقبل نازحين ومرشح للمزيد في السنوات القليلة المقبلة، هذه الحقيقة لا تعني تحريضاً ولا عنصرية فهي تقرير واقع يفيد أيضاً بأن اللبنانيين الأصليين هم الأقل عدداً في وطنهم، مع ذلك تنعقد القيادة لأفراد منهم يمارسون وحدهم نمط الإنتاج الطائفي. الداخل العربي يطرد سكانه إلى لبنان الذي بدوره يطرد سكانه إلى القارة الأميركية وأستراليا، لعبة مأسوية نعتبرها لعبة وانتشاراً حضارياً. يروي صديقي الآتي من البرازيل أن الجالية اللبنانية قررت في العام 1976 شراء 10452 كلمتراً مربعاً في مناطق جبلية غنية بالينابيع والأنهار، بغية استقبال الشعب اللبناني كله لينجو من مسلسل الحروب في موقعه الجغرافي الحساس. هل يطبقون قرارهم في العام 2013؟ الأربعاء 10/10/2012: لا نعتذر نشكو من عدم تفهم الغرب أحوال العالم العربي والإسلامي ونعزو ذلك إلى نزعة استعمارية حتى بعد انحسار الاستعمار، وتعلو أصوات غربية للاعتذار عن هذا الأمر، كما في تقديم أدغار موران الترجمة العربية لكتابه «هل نسير إلى الهاوية؟» (منشورات «أفريقيا الشرق» في المغرب) حين قال انه على بينة من الظلم الناتج من عدم تفهم الغرب العالم العربي والإسلامي، لذلك فهو يعمل دائماً لإحقاق العدالة ومدّ جسور التفاهم بين الشعوب. كلام موران وغيره موجه إلى السياسات الغربية، خصوصاً الأميركية، في نوع من النقد الذاتي، لكنه لم يشكل حافزاً لنا كي ننتقد نظرتنا نحن إلى الغرب، المتأرجحة ما بين العدائية المطلقة وشكوى الابن من ظلم أبيه أو انصرافه عنه. هذا التأرجح يبدو واضحاً في خطاب السياسيين كما في أدبيات الإيديولوجيين الإسلاميين وأساتذتهم القوميين. ليس الغرب كتلة واحدة صماء وليس الشرق العربي والإسلامي كذلك، وحينما نسعى إلى ما نسميه تظهير وحدة العرب والمسلمين باحتقار مبدأ التعدد وبإهمال عوامل التنوع الأصلية، فإنما نستكمل هذه النزعة الاستبدادية بالتوجه العدائي إلى الغرب غير المتعدد ولا المتنوع. هكذا نراه لنبرر نظرتنا إلى أنفسنا، ثم يمعن بعضنا في قهر بعضنا لنصل إلى خلاص الغلبة فوق الحطام والجثث. ليس الغرب من لا يتفهمنا، إنما نحن الذين لا نتفهم أنفسنا، ولا نريد ذلك أصلاً، لأنه يتطلب معرفة واقعية دنيوية فيما نريد إقامة ما نعتبره مجتمع الله على الأرض، بواسطة القتل، على الأرجح، من باب أن القتل تخلص من الهوامش والزوائد، فيشتد الجسم الأصلي ويتجوهر. نعمر بيوتاً ثم نهدمها. نؤلف كتباً ثم نحرقها. تفيض منا مشاعر الحب فنخجل، بل نعتبرها عاراً ونخنقها بدخان الكراهية. نأنس بالطبيعة ثم نفصلها عنا بستار مخافة أن تفتت وحدتنا وتذكرنا بأننا أبناء بيئة غير بيئة أخوتنا الآخرين. نعلي من شأن الفصحى، لغتنا المشتركة، ونحط من شأن المحكية غير المشتركة، فتضيق الفصحى شيئاً فشيئاً عن حمل أفكار ومشاعر أليفة وحسية لأنها لغة العمومي الثابت، وحتى إذا تناسل هذا الثابت يحتفظ بهيئته الأصلية، عاشت أصالتنا. ولكن، ما هو هذا الغرب الذي نستنهض لمواجهته ماضينا كله، بما فيه من نجاح وفشل، ونستسلم لماضوية لا مكان لها في الواقع إنما تحتل وجداننا حتى تصبح ابتلاء أو مرضاً. مما جاء في تعريف كتبه ناوكي سكاي وميغان موريس: «كان التحديث يسمى تغريباً، وجعلتنا هذه الصيغة نغفل إغفالاً مؤلماً المشكلات الواضحة التي تتعلق بالفكرة القائلة إن بعض المجتمعات تجري أمام غيرها، وإن الأولى تقع في الغرب في حين تتلكأ البقية في الخلف. والحقيقة أن كل تكوين اجتماعي ينطوي على أشياء جديدة وأشياء قديمة، تماماً كما يضم شباناً وشيوخاً. غير أن وهم التقدم الخَطّي يقمع هذا التعقيد. من المتوقع، إذاً، أن يتجلى الغرب كمعيار للحداثة التي يتجمد إزاءها ما هو محلي بالذات وغير غربي في الزمان بوصفه غير حديث. ولا يفضي هذا إلى تشويه بسيط للأخير فحسب، ذلك أن الثقافة المحلية، في الوطنية العرقية، يتم تثبيتها في خصومة نسقية مع السمات المزعومة للغرب. هكذا يؤدي الغرب دوراً إيديولوجياً في الرغبات التنظيمية للمجتمعات غير الغربية بقدر ما يؤديه في ما يسمى المجتمعات الغربية. وحتى الثمانينات من القرن الماضي كان كثيرون من سكان بقية العالم يتخيلون أن الغرب هو المؤشر إلى مستقبلهم والهدف الذي ينبغي أن تتطور مجتمعاتهم باتجاهه. على أن سلطة الغرب كخيال اجتماعي بدأت تبهت في الفترة الأخيرة، وصار عدد متزايد من الشباب يعي المظاهر غير الغربية في مجتمعات أوروبا وأميركا الشمالية، كما يعي المظاهر الغربية للحياة في كثير من مجتمعات ما يسمى الأجزاء غير الغربية من العالم». الخميس 11/10/2012: نصف بيت نصف بيت لنسكنه، مكتمل الإهاب ومؤثث. نصف وله شرفة على الوادي حيث آخر العصافير وأول العاصفة. نصف بيت يحتاج مزيداً من الإسمنت والكلس والخشب والزجاج والحديد، نصف لا يكتمل بانتظار سلام نحلم به نحن أهل لبنان والمشرق. نصف بيت للفرح ونصف لوعد مستحيل. الجمعة 12/10/2012: صخرة صخرة على شاطئ البحر، تتوسط صخوراً صغيرة ومنخفضات مائية يتصل بعضها بعمق البحر. وحين تعصف الريح ويعلو الموج تستحم الصخرة الكبيرة بالماء المالح وتعلو من المنخفضات نوافير الماء الأبيض مثلما أن البحر يزفر غضباً أو حزناً. الصخرة البحرية حقيقة لبنان، وغير الصخرة حقائق عابرة أو سراب أو ألعاب سحرة ومشعوذين. في المنخفضات المائية غير المتصلة بعمق البحر، يصطاد سكان الشاطئ سمكاً فقيراً مثلهم: المواسطة، الغبص، العريّس، السرغوس، المنّوري، ويتركون السمك الكبير وكلاب البحر إلى الأغنياء ساكني التلال، يرون في مناظيرهم المكبرة سفن الأساطيل التجارية والحربية شرق المتوسط. لبنان الصخرة البحرية وأهله الصيادون الفقراء المعزولون والصيادون الأغنياء المنفتحون، تبقى الصخرة ويتغير الأهل وينمو السمك وحيداً في المنخفضات الصغيرة يشتهي صياديه. وسمك لبنان خارج الصخرة البحرية، غرائبي بفم واسع وزعانف قاتلة. سمك نسميه غني الحرب أو المتاجر بجثث الشهداء أو بائع الأفكار التحضيرية للانتحاريين.