* بين «العروس» وبين «العجوز» مسافة بعيدة وفوارق عديدة.. وهنا تكمن استحالة جمع المفردتين على بساط واحد إلا إذا خرج اللفظ في إحداهما عن طور القناعة باستحقاق المسمى لهذا الاسم.. تماماً كما يحدث اليوم للعروس العجوز ( جدة ) ليس بعد غرقها في سيول الاربعاء “ الكارثية “ فحسب بل قبل ذلك بكثير وبالتحديد منذ أن فقدت العروس عذرية شبابها ونضارة حسنها.. وعاشت سنوات طويلة في كنف الاهمال والارتجال تجرعت خلالها ألواناً من الفساد كانت في مجملها كفيلة بزف العروس ( العجوز ) إلى شيخوخة مبكرة وأمراض مزمنة. * وإذا كان الإنسان ابن بيئته - كما يُقال - فلا غرابة أن يمتزج في ( جُدة ) الإنسان والمكان؛ فينتج عنهما عنصر هام تتشكل منه طبيعة الحياة في هذا الثغر المطل على البحر الأحمر .. حياة تنبض بكل ما فيها من متغيرات ومتناقضات فتختلط السعادة بالشقاء، والرخاء بالشدة، والفقر بالغنى ، والعلم بالجهل، والضعف بالقوة، والتقدّم بالتخلف. وقس على هذا ما شئت لتخرج بعدها بهذه التركيبة العجيبة لمدينة كانت في بداياتها وسالف عصرها حبيسة سور حجري يحيط بأحيائها القديمة من كل جانب ويحتضن بيوتها العتيقة التي توالدت مع مرور الزمن وكبرت واتسعت وامتدت الى خارج السور وكأنها ترسم على فستان العروس خارطة (جدةالجديدة) بما فيها من مخططاتها وعشوائياتها حتى أصبحت كما هي عليه اليوم محافظة كبرى تستوعب كل شيء لكنها - للأسف - تستعصي على التطوير.. وتقف آيلة للسقوط على بنية تحتية متهالكة تثير حولها الكثير من علامات الاستفهام فمن قاد العروس الى هذا الوضع الخطير والواقع المؤلم ؟ * هل توقف بها قطار العمر في محطة الفساد ؟ * هل دارت بها الايام فتنكر لها المحبون؟ * هل بلغت سن اليأس ففقدت لقب “ العروس “؟ * أسئلة حائرة منذ سنوات عديدة لكنها أطلت من جديد وبقوة مع الكارثة الاخيرة لتفتح العديد من الملفات الساخنة والقضايا الشائكة.. ولا يزال التحقيق مستمراً.. أما العروس العجوز فكما عهدناها دائماً تلعق جراحها بمرارة لتواصل نبض الحياة.. وكأنها تبحث عن مستقبل يجدد فيها الأمل لاستعادة لقب “ العروس “ المفقود.. وحتى تستعيده من جديد دعونا اليوم نفتح نافذة على الماضي ونبحث عن قصة إطلاق هذا اللقب.. وعن معلومات اخرى هامة عن جدة.. العروس؟ * لو بدأنا أولاً من الاسم المكوّن من الحروف الثلاثة ( جدة ) لوجدنا أنفسنا امام اختلاف كبير في سبب إطلاق هذا الاسم وحتى طريقة لفظه.. فقد ذهب أكثر المؤرّخين إلى أن اسم (جدة) يُلفظ أوله بحرف الجيم، ولكنهم اختلفوا في نطق هذا الاسم وسبب التسمية، فيقول البعض: «جُدّة» بضم أوله، أي ساحل مكة، وسمّيت بذلك لأنها حاضرة البحر، والجدّة من البحر والنهر ما يلي البر. وهناك مَن يقول بأن «جِدّة» بكسر الجيم مدينة على البحر، منه اشتق اسمها.. وهناك مَن يدَّعي أن «جَدّة» بفتح الجيم سُمّيت كذلك؛ لأن أم البشر حواء - عليها السلام - دُفنت فيها، فهي جَدّة جميع البشر. عروس بين صخور الشاطئ * أما لقبها الشهير ( عروس البحر الاحمر) فقد التصق بها منذ عدة عقود.. ولا يمكن تحديد تاريخ التدشين الرسمي لهذا اللقب.. ووفقاً لرواية قديمة جداً لا يمكن الوثوق بصحتها يقال انه في صباح احد ايام الصيف كان أحد الصيادين الشباب يقف على صخرة من الصخور المطلة على البحر يمارس الصيد وإذا بحركة غريبة بين الصخور المجاورة له فالتفت نحو مصدر الصوت فلم ير شيئاً فعاد منشغلاً بالصيد .. ثم تكررت الحركة مرة اخرى وسمع نفس الصوت فاتجه صوب المكان الذي جاء منه الصوت فوجد مخلوقاً غريباً على شكل سمكة كبيرة ولكن رأسه اشبه ما يكون برأس الانسان ويحمل الكثير من الصفات الانثوية.. كان هذا المخلوق البحري عالقاً بين الصخور ويحاول الخلاص منها للعودة الى البحر.. ويبدو أنه قد وصل الى هذا الموقع اثناء مد البحر وبقي فيه فلما حصل الجزر لم يستطع العودة لضحالة الماء. * شعر الشاب بالخوف من هول المنظر ثم تمالك نفسه وأخذ يتأمل ذلك المخلوق البحري العجيب وقاده تفكيره الى أنه قد يكون أمام عروس البحر التي كان يسمع عنها من خلال بعض الحكايات القديمة والاساطير. * اقترب الشاب الصياد من ذلك المخلوق او عروس البحر فزادت حركتها واضطربت وأصبحت تعاني كثيراً من عدم القدرة على العودة الى مياه البحر وبدأت تنزف دماً من جرح غائر تعرضت له إحدى زعانفها أثناء محاولة الخلاص من بين كومة الصخور .. فقرر الشاب تقديم المساعدة فمد يده وأمسك بذيل تلك السمكة العروس وجذبها نحوه حتى خلصها تماماً وما كاد ان يضعها في المياه الضحلة القريبة من الصخور حتى اشارت بزعنفها الى البحر وكأنها تريده ان يعيدها اليه.. ففهم الاشارة ولبى الطلب فأخذ بذيلها مرة اخرى وجذبها نحو الماء شيئاً فشيئاً حتى بلغ الماء ركبتيه فانتفضت عروس البحر من يده وهربت سريعاً لتغوص في الاعماق. * اصيب الصياد الشاب بنوع من الذهول والدهشة وظل في مكانه يراقبها حتى اختفت تماماً فعاد الى مقر تجمع الصيادين واخبرهم بما حدث له مع عروس البحر الاحمر فلم يصدقه احد.. فقادهم الى الموقع الذي جرت فيه الحادثة ولكن لا يوجد أي أثر يؤكد صدق ما رواه لهم.. وفي المساء عاد الجميع الى بيوتهم ليحكوا هذه القصة لكل من عرفوا فانتشرت بين الناس واصبحت قصة عروس البحر متداولة يتناقلها الركبان كما ارتبطت جدة بهذه العروس حتى اضحت لقباً مميزاً لها. بحر جدة خال من العروس * لم تنل هذه الرواية حظها من المصداقية وظلت تتردد كحكاية من حكايات جدة القديمة ، ولهذا أخذنا في البحث عند بعض مؤرخي جدة عن حقيقة لقب ( العروس ) وهل تواتر شيء يدل على حادثة الصياد والسمكة العروس؟! * سألنا المؤرخ والباحث في تاريخ جدة محمد درويش رقام عن ذلك فقال: - لم نسمع من قبل عن ظهور سمكة عروس البحر إلا في القصص والحكايات وحسب علمي لا وجود لها إطلاقاً في بحر جدة.. وان كنا سمعنا عن بعض انواع الحوت من الثديات التي يصطادها بعض البحارة على فترات متباعدة من الزمن.. وكان الصيادون من أهل جدة القديمة مشغولين بمعيشتهم وطلب الرزق فهم يعتبرون البحر الأحمر مصدر هذا الرزق بتوفر الاسماك الوفيرة بكافة انواعها واشكالها واحجامها.. فهناك سمك (الفارس) ويظهر في مواسم معينة وكذلك سمك (الكشر) الذي يقال له اليوم (الهامور) ، وسمك (القرش)، وسمك (الناجل) وبالمناسبة سمك الناجل لم يكن مطلوباً بكثرة على عهد جدة القديمة أما السيجان فقد كان مطلوباً ومرغوباً عند اهل جدة وخاصة في شهر رمضان وله مواسم أيضاً.. ثم يأتي سمك الشعور أما سمك (الحريد) فكنا نطلق عليها سمك (الماشي) وله مواسم معينة يكثر فيها ، وكان الصيادون يصطادونه ويعرضونه للبيع على خصف في البنقلة خلف ادارة البرق والبريد حيث تباع الشكة بأربعة قروش أو نصف ريال على الأكثر.. ويستمرون في بيعه على مدى شهر كامل ثم ينقطع .. وفي اغلب الاحيان كانت كمية سمك الحريد تزيد عن حاجة اهل جدة ولعدم وجود ثلاجات وبرادات كان الصيادون يرمون الكميات الزائدة من سمك الحريد خلف سور جدة.. كما يستفيد الصيادون من رزق البحر بأشياء اخرى غير السمك حيث كان هناك غواصون ينزلون الى اعماق البحر فيقطعون اشجار اليسر حيث تستخدم هذه الاشجار في عمل السبح.. وهناك دلالون متخصصون في بيع شجر اليسر ومنهم بيت زامكة وبيت سنبل وبيت صائم الدهر. شحاتة اخترع اللقب والفارسي ترجمه * اتفق عدد من مؤرخي جدة مع ما قاله العم محمد درويش رقام عن عروس البحر الاحمر جدة.. كما ذهبوا الى أن أول ظهور للقب (عروس البحر الاحمر) كان -على استحياء- من خلال الإنتاج الفكري لبعض شعراء وادباء الحجاز في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، ومن بينهم الشاعر الاديب الراحل حمزة شحاتة الذي نظم قصيدة شعرية يتغزل فيها بجدة.. ويشير الكثيرون إلى أنه - أي حمزة شحاتة - أول من اطلق لقب (العروس) على مدينة جدة من خلال كلامه عنها بعد قصيدته (النهى بين شاطئيك).. ونتيجة لانتشار الأمية في تلك الحقبة الزمنية فلم يكن أكثر سكان جدة والمقيمون فيها يعرفون هذا اللقب فظل على مدى سنوات طويلة حبيس دائرة ضيقة جداً ممثلة في نخبة من اهل الفكر والادب. * وفي السبعينيات الهجرية بعد هدم السور الذي كان يحيط بأحياء جدة القديمة واتساع الرقعة العمرانية وانتعاش جدة ودخولها مرحلة حضارية كبرى في ظل العهد السعودي الزاهر .. وما لبثت أن انتقلت الى مرحلة تطوير اخرى عاشتها جدة في الثمانينيات الهجرية فخضعت لمشاريع التجميل التاريخية التي خصصت لها الدولة ميزانيات ضخمة وأسندت مهمة قيادة فريق العمل والتنفيذ للمهندس محمد سعيد فارسي الذي افتتن بلقب (العروس) الذي اطلقه شحاتة فحاول ترجمته على ارض الواقع مستثمراً ذلك الدعم الكبير من الدولة فوضع بصمته الهندسية لتجميل وجه العروس.. في كورنيشها وشوارعها ومنتزهاتها ومرافقها واسواقها.. وأخذ لقب ( العروس ) يسجل حضوره بشكل اكبر داخل المجتمع الجداوي ثم اصبح مرادفاً لاسم جدة في كثير من الاطروحات الادبية والصحفية فانتشر بشكل كبير.. ولايزال. * كان للانفتاح الاقتصادي الذي شهدته المملكة بشكل عام وجدة ( العاصمة الاقتصادية ) بصفة خاصة تأثيره الواضح على رفع سقف الجاذبية لهذا الثغر الباسم فقد استطاعت جدة أن تلف النظر بحسنها ونمط الحياة فيها وبدأت تخطو خطواتها الأولى على درب السياحة.. فأخذ لقب (العروس) يفرض نفسه بشكل اكبر حتى اصبح علامة فارقة في التعريف بمحافظة جدة بعد أن رسم حدود موقعها الاستراتيجي كقطعة هامة من جسد هذا الوطن الكبير فكانت حقاً جديرة بكل ما قيل عنها.. فجدة في عيون أهلها وزوارها كانت ولاتزال ثغر المكان وهبة الانسان وقبل هذا وذاك هي (عروس البحر الاحمر) مهما جرى وكان. وليس اجمل من تجسيد هذا اللقب في قصيدة نظمها الشاعر الامير بدر بن عبدالمحسن يقول فيها: اسقي كل البحر من طلك عذوبة وسرّحي ضيك عليه في المساء مرّ وشذى عطرك في ثوبه وماسك الشمس بيديه يلعب بشعرك هبوبه.. وش عليه تضوي نجومك دروبه.. وش عليه وكل ما جا الطاري في عرس وخطوبة قلنا من هي العروس قالوا جدة ..