كتب جمال خاشقجي مقالاً قبل أيام بعنوان مثير «اخرجوا العمالة الأجنبية من جزيرة العرب». («الحياة»، 29 أيلول/ سبتمبر 2012)، ونقول نحن: بل «اخرجوا «دكاكنجية» التجارة من سوق العمل»، عندها ستصلح الأحوال وتستقيم الأمور وينعم سوق العمل والمواطن والمقيم والاقتصاد والوطن بالخير العميم... «الدكاكنجية» مصطلح نحته - كاتب هذه السطور - لوصف أدعياء التجارة، أولئك الذين نطلق عليهم تجملاً مصطلح «رجال أعمال»، الطرح الذي طرحه الخاشقجي فيه الكثير من المنطق، لكن الأسئلة الواجبة الطرح عند مناقشة العمالة الوافدة والشكوى منهم هو: من أتى بهذا العدد الهائل من العمالة المهترئة والمتردية والسائبة؟ من يستغل تلك العمالة ويعاملها بأسوأ معاملة؟ ومن الذي يفتح لهم سوق العمل على مصراعيها وبشكل غير قانوني أو غير أخلاقي؟ أليس هم أدعياء التجارة ومن نطلق عليهم تجملاً «رجال أعمال»؟ ثقافة التجارة والاتجار هي سبب التشوهات في سوق العمل والاقتصاد السعودي، في تلك الثقافة يكمن الداء والدواء والعلة والمخرج، نتج عن تلك الثقافة البدائية استهتار بكل الأنظمة والقوانين في غياب عقوبات رادعة، الآثار السلبية لثقافة التجارة والاتجار لا تقتصر على سوق العمل، بل تتعداه إلى جميع نواحي الاقتصاد من سوء في الخدمات، وتردٍ في الإنتاج، وانعدام في التدريب والتعلم، ونقل المعرفة التي هي أساس الفوائد في استقدام العمالة، يضاف إلى ذلك، آثار سلبية اجتماعياً ومالياً وأمنياً. العقود الأربعة الماضية، وتحديداً في العام 1975، ومع ارتفاع المداخيل إثر الزيادة في أسعار النفط، وخطة التنمية الثانية، ومع مجيء الموجة الأولى من العمالة الوافدة للمشاركة في أكبر عملية تنموية يشهدها التاريخ، تصاعدت أعداد الوافدين بشكل سريع حتى وصلوا لإعداد قياسية مع بداية الخطة التنموية الثالثة في العام1980، حينها ولدت ثقافة بائسة لاستغلال ما سُمي حينها «الطفرة»، ونطلق عليها الآن «الطفرة الأولى»، بحيث لم يعد الاستقدام لحاجة العمل بقدر ما هو استغلال لظروف شعوب ترزح تحت نير الفقر والعوز، ورغبة جامحة في الكسب السريع، ولو بشكل غير أخلاقي أو قانوني، فظهرت تجارة التأشيرات، حتى اختنقنا من عمالة رديئة تتسكع في شوارع الرياضوجدة والدمام وما بينها، يأتي العامل الأجنبي وقد تحمل ديوناً تصل مدة تسديدها إلى سنوات نتيجة استغلال وجشع «الدكاكنجي» السعودي الذي يسافر ويسكن ويأكل ويشرب ويلهو ويعبث في الخارج على نفقة مكاتب الوساطة بقدر عدد التأشيرات التي يحملها. صحيح أن وزارة العمل اجتهدت منذ العام 2005 في الحد من التأشيرات غير الضرورية، أو تجارة التأشيرات، ولكن جسد الاقتصاد وفكر «الدكاكنجية» استطاب ذلك الفيروس وأدمن العامل الوافد بحيث ابتعد فكرهم عن أهمية الموارد البشرية والعامل البشري عند التفكير في أي مشروع تجاري، وبات كل «دكاكنجي» على استعداد للقيام بكل ما هو غير قانوني لتوظيف العامل الوافد، ضارباً بالأنظمة والقوانين ومستوى الجودة والخدمة عرض الحائط، والتحايل بشتى الطرق لكي يهرب من التوطين وتوظيف المواطنين، لسبب بسيط وهو أن العامل الوافد «الرديء» على استعداد لعمل أي شيء وفي أي وقت، ونشأ نتيجة لذلك علاقة عمالية يطلق عليها «علاقة السيد/العبد Master/Slave»«Relations» وكانت السبب خلف رفض «الدكاكنجية» للتوطين، إذ لا يمكن للمواطن، أو أي بشر، أن يقبلها بأي حال من الأحوال، من ناحية ثانية، وصلت سمعة المملكة إلى الحضيض في ما يخص التعامل مع العمالة الوافدة، وعلى رغم أن الأنظمة والقوانين الموجودة في أدراج وزارة العمل المتطورة وفيها الكثير من الحقوق إلا أن معظمها لا يصل إلى التنفيذ أو المتابعة، يضاف إلى ذلك، نظرة فوقية و«شيفونية» بغيضة تجاه العامل الوافد، بصرف النظر عن الجنسية مع بعض الاستثناءات لذوي العيون الزرقاء... فما الحل إذن؟ حسناً، أليس لدينا مدن اقتصادية وصناعية؟ دعونا نتخيل مدناً عمالية في جميع مدن المملكة تبعد 25 - 50 كيلو متراً عن أطراف المدن، يمكن لكل مدينة أن تستوعب 100 ألف عامل، ويتوفر فيها السكن الملائم، والغذاء الصحي، والخدمات الصحية، والنقل والأمن، ولا بأس من مناطق ترفيهية وتدريبية في تلك المدن. ويجبر كل من يستقدم عمالة وافدة «عزاب»، وأقل من مرتب شهري معين، أن يسكن عمالته في تلك المدن مقابل مبلغ 1250 - 1500 شهرياً لكل عامل، للمضي نحو مشروع المدن العمالية، ليس على وزارة العمل سوى تفعيل قرار وزير العمل رقم 399/1 الصادر بتاريخ «1 - 2 - 1428ه، وإلزام جميع التجار بتطبيقه على جميع عمالتهم الوافدة من دون استثناء، عندها ستتحقق منافع لا حصر لها... القرار المشار إليه يتكون من 17 مادة تنظم ثلاثة أمور، الأول: السكن وشروطه ومواصفاته؛ الثاني: الانتفاع؛ الثالث: الإطعام. ومن شروط ومواصفات موقع السكن عدم التعرض لأي شكل من أشكال التلوث البيئي أو الصناعي، الاتصال الملائم مع طرق المواصلات ومرافق الخدمات العامة، وجود مساحة كافية بين الوحدات السكنية بما يضمن استقلالية خاصة لكل سكن مع تأمين التهوية المناسبة والإضاءة الطبيعية الكافية لكل مسكن، شيء جميل، ماذا عن مواصفات السكن من الداخل؟ غرفة مستقلة للنوم، غرفة استراحة، غرفة أو ركن خاص يستخدم لأغراض تحضير الطعام، غرفة للاستحمام، ويجب أن يلحق بالوحدة السكنية مكان مناسب لغسل الملابس. (لمعرفة مزيد من تفاصيل القرار راجع مقالة: السعودة والعمالة الوافدة والبرغل؛ «الحياة»، 30 - 5 - 2010) الذي يتمعن في مضمون القرار لا يعرف هل يضحك أم يبكي، ولا يعرف أيضاً هل القرار جرى إعداده للتنفيذ أم لإسكات المنظمات الدولية والحقوقية، ليس بسبب ارتفاع أسقف الغرف، أو درجة ميلان ومساحة السلالم، أو الحماية من الحشرات والقوارض، وليس بسبب البرغل أو «هبرة» لحم الغنم، أو الأجاص أو الدراق، أو البطيخ الأصفر المحدد في لائحة الطعام، بل بسبب الفارق العظيم بين التفاصيل الدقيقة والمعايير العالية والتفنن في شؤون صحة وسلامة العمالة الوافدة المذكورة في القرار وبين واقع الحال والمشهد اليومي لوضع العمالة الوافدة. من جانب آخر، سيؤدي تفعيل هذا القرار وبناء مدن عمالية حتماً إلى النتائج المباشرة التالية: أولاً: انخفاض عدد العمالة الوافدة إلى أكثر من النصف، ثانياً: توظيف كامل للقوى العاملة الوطنية رجال ونساء وبأجر مجزٍ، ثالثاً: تحسين سمعة المملكة في الخارج، رابعاً: خروج نهائي لجميع «الدكاكنجية» من سوق العمل، خامساً: زيادة الوحدات السكنية الشاغرة داخل المدن وانخفاض قيمة العقار، سادساً: الكثير من الآثار الإيجابية على مستوى الأمن، والخدمات وجودة الإنتاج، وخفض الضغط على الخدمات العامة واستهلاك الطاقة، وانخفاض الزحام في الشوارع. أخيراً، وضع العمالة الوافدة في السعودية أمر يستحق الشفقة ويدعو إلى الرثاء، وضع لا يتفق مع الدين أو الأخلاق أو القانون وما لم تتخذ وزارة العمل قراراً حاسماً وحازماً في هذا الشأن فسيستمر «الدكاكنجية» وما يملكونه من ثقافة تجارة واتجار في العبث والاستهتار والتحايل، وسيمنعون دخول جيل جديد من الشباب الرائد الواعد، وستظل التشوهات في وجه الوطن وجسد الاقتصاد وهيكل سوق العمل، كما ستسمر وزارة العمل في إصدار التشريعات والقوانين والمبادرات لسد ثغرات التحايل من «الدكاكنجية»... فهل تستجيب وزارة العمل ويفعلها الوزير؟ هذا سؤال المليون دولار، كما يقول المثل الغربي، وسؤال المليون عاطل، كما نقول نحن. * باحث سعودي. [email protected]