الحجج التي يسوقها بعض التجار للتخلص من «السعودة» بهدف استقدام عمالة رخيصة سقطت أو في طريقها للسقوط أمام الإحصاءات الأخيرة التي نشرتها وزارة العمل حول عدد العمالة الوافدة ومستوياتهم التعليمية، وما «شهد به شاهد من أهلها» الأستاذ عبدالرحمن الزامل في دفاعه عن العامل السعودي في الحلقة المثيرة الماضية من برنامج الكاتب داود الشريان «واجه الصحافة»، من تلك الحجج: تدني كفاءة العامل السعودي، عدم توافق مخرجات التعليم مع مدخلات سوق العمل، نقص ثقافة وسلوكيات العمل، رداءة التدريب، عدم الانضباط، التسرب من العمل، الرغبة في العمل الحكومي فقط، والتي ليست سوى تبرير وتسويف لإبعاد المواطن عن العمل. أما الآن، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الغالبية العظمى من إخواننا التجار أدمنوا الاستقدام بشكل يستحيل معه كبح جماح البطالة في وقت يتزايد فيه عدد الخريجين والمؤهلين من المواطنين تأهيلاً عالياً وعالمياً، وبالتالي أصبحت البطالة بين السعوديين في تزايد، وأعداد العمالة الوافدة في تصاعد، وأطراف القضية في تباعد. لم نصل إلى «الاستسلام الطوعي»، كما جادل الزميل عبدالعزيز السويد، لكننا سنحاول أن نجرب «السعودة» من خلال الاهتمام بالعمالة الوافدة عسى ذلك يشفع لنا عند إخواننا التجار، تفعيل قرار وزاري واحد صدر قبل أكثر من سنتين سيؤدي إلى عدد من الأمور تنعكس إيجابياً على المجتمع والدولة في الداخل والخارج وسيفضي إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة لسوق العمل السعودية، الأول: تخفيف حجم العمالة الوافدة إلى أقل من النصف، الثاني: رفع مستوى وكفاءة الإنتاج، وثالثاً: التوظيف الكامل للمواطنين بمعنى إلغاء، أكرر، إلغاء البطالة كلياً في قاموس المجتمع السعودي، كما سيصبح الاستقدام بضاعة كاسدة لا يهتم بها أحد من بعيد أو قريب ولن تستغرق إجراءات الاستقدام، في حال تنفيذ القرار، أكثر من 24 ساعة... كيف؟ تفعيل قرار وزير العمل رقم 399/1 الصادر بتاريخ 1 - 2 - 1428ه، وإلزام التجار بتطبيقه على جميع عمالتهم الوافدة من دون استثناء، سيحقق منافع لا حصر لها، إذ يتكون القرار من (17) مادة تنظم ثلاثة أمور: الأول، السكن وشروطه ومواصفاته؛ الثاني، الانتفاع؛ الثالث، الإطعام. ومن شروط ومواصفات موقع السكن عدم التعرض لأي شكل من أشكال التلوث البيئي أو الصناعي، الاتصال الملائم مع طرق المواصلات ومرافق الخدمات العامة، وجود مساحة كافية بين الوحدات السكنية بما يضمن استقلالية خاصة لكل سكن مع تأمين التهوية المناسبة والإضاءة الطبيعية الكافية لكل مسكن، شيء جميل، ماذا عن مواصفات السكن من الداخل؟ غرفة مستقلة للنوم، غرفة استراحة، غرفة أو ركن خاص يستخدم لأغراض تحضير الطعام، غرفة للاستحمام، ويجب أن يلحق بالوحدة السكنية مكان مناسب لغسل الملابس. ماذا بعد؟ في القرار أدق المواصفات بالنسبة للتهوية، واتجاه الريح، وانفصال مكان النوم عن المرحاض، وأن تكون الأرضيات من مواد ملساء سهلة التنظيف ومحمية بشكل كافٍ من دخول الحشرات أو القوارض، أما ارتفاع الجدران فلا يقل عن ثلاثة أمتار، ويجب ألا تتجاوز زاوية الميل في السلالم/ الأدراج «45» درجة، وألا يزيد ارتفاع كل درجة على «15» سم. ماذا عن التجهيزات؟ حوض غسيل، صنابير مياه عذبة، منضدة لإعداد الطعام، مكان لخزن المواد الغذائية، ثلاجة موقد غاز أو كهرباء أو كليهما، وعاء محكم لحفظ مخلفات إعداد الطعام، وعلى صاحب العمل تجهيز المساكن المقدمة للعمال بالتجهيزات المنزلية الأساسية الخاصة بغرف النوم والاستراحة وتجهيزات تناول الطعام والاستحمام، ويجب على صاحب العمل إجراء تعقيم ملائم للمساكن والتجهيزات الخاصة بها. ملاحظة، تؤكد المادة (13) عدم تحمل العامل أي أعباء مالية لقاء الانتفاع من المساكن. أما الإطعام، وما أدراك ما الإطعام، فيتضمن القرار الوزاري أن يحتوي الطعام على المواد الأساسية اللازمة للجسم من بروتينات وسكريات ودسم وفيتامينات ومعادن، وألا يقل عدد الحريريات التي يحصل عليها العامل الواحد في اليوم نتيجة تناوله الوجبات اليومية الثلاث عن «3500» حريرة، ولكي يصل العامل إلى العدد الكافي من السعرات الحرارية يتضمن القرار قائمة الطعام والكميات الشهرية بالكيلو غرام كما يأتي: بيض دجاج «30»، مربى «1،5»، حليب مبستر «15»، جبنة بيضاء «2»، خبز أبيض «15»، لحم غنم (هبرة) «2»، دجاج «2»، رز «1,5»، برغل «1»، فصولياء خضراء أو فول أخضر «2»، بازلاء خضراء «2»، بطاطا «2»، بندورة «2»، خيار «2»، سمن نباتي «1»، زيت نباتي «0,75»، زيت زيتون «0,75»، تفاح «1»، أجاص «1»، كرز «1»، دراق «1»، مشمش «1»، برتقال «1»، بطيخ أصفر «1»، بطيخ أحمر «1»، عنب «1»، موز «1»، شاي «0,5»، سكر «3,5». هل لاحظتم البرغل؟ لا تنسوا البرغل، سنعرج عليه لاحقاً. يؤكد القرار، أنه «يجب ألا تكون الوجبات التي تقدم في يومين متتاليين من نوع واحد من الأنواع الواردة بالجدول. كما يجب تقديم الوجبة التي تشمل على اللحم ثلاث مرات على الأقل أسبوعياً «وجبة ساخنة»، لا ننسى أن اللحمة المقترحة (هبرة) يعني لحم صافٍ خالٍ من العظم. كما أن الفقرة (2) من المادة (16) من القرار الوزاري تقضي، أيضاً، بأنه «لا يجوز تحميل العامل أي أعباء مالية مقابل هذه الوجبات وتعتبر جزءاً من أجر العامل». لا أعرف هل نضحك أم نبكي ونحن نستعرض هذا القرار؟ ليس بسبب ارتفاع أسقف الغرف، أو درجة ميلان ومساحة السلالم أو الحماية من الحشرات والقوارض، وليس بسبب البرغل أو (هبرة) لحم الغنم أو الأجاص أو الدراق أو البطيخ الأصفر، بل بسبب الفارق العظيم بين التفاصيل الدقيقة والمعايير العالية والتفنن في شؤون صحة وسلامة العمالة الوافدة المذكورة في القرار وبين واقع الحال والمشهد اليومي لحال العمالة الوافدة. أما البرغل فقد استوقفني لأسباب عدة: الأول، أن البرغل يستخدم في «التبولة» و«الفتوش» و«الكبة» وكلها أكلات غير سعودية. الثاني، عدم وجود التمر على رغم حجم الإنتاج السعودي من التمور وما يحتويه من سعرات حرارية. السبب الثالث، أن الذي أعد قائمة الطعام وافد مقيم في منطقة بعيدة عن البحر، بدليل تسميات الفواكه ونوعيات وكميات الطعام وعدم وجود السمك، أو أي من المأكولات البحرية. القرار الوزاري الآنف الذكر منشور في موقع وزارة العمل على «الإنترنت» لمن أراد المزيد. أخيراً، تشير آخر الإحصاءات الصادرة من وزارة العمل للعام 1430/1431ه أن من هم على رأس العمل من العمالة الوافدة في منشآت القطاع الخاص «6،214،067» هذا الرقم – بالمناسبة - لا يشمل العمالة المنزلية. مقابل «681،481» لمن هم على رأس العمل من السعوديين. بمعنى آخر، تشكل العمالة الوافدة أكثر من تسعة أضعاف عدد السعوديين، ولو أجرينا حسبة بسيطة على قائمة الطعام فقط؛ عدد العمالة الوافدة مضروباً في الكمية الشهرية، سنكتشف أن العمالة الوافدة ستستهلك سنوياً، على سبيل المثال، أكثر من «2000» مليون من بيض الدجاج، أما البرغل فسيصل الاستهلاك إلى أكثر من «74» مليون كيلو غرام. ختاماً، في حال تطبيق القرار، نجزم بأن كلفة العامل الوافد الشهرية لن تقل عن «5000» خمسة آلاف ريال، وهذا سيرفع الحرج عن وزارة العمل في وضع حد أدنى للأجور لا يقل عن كلفة العامل الوافد الشهرية، كما سيساعد على ثلاثة أمور رئيسة: الأول، سيقصر التاجر الاستقدام على العمال المهرة فقط، وهذا بدوره سيخفض عدد العمالة إلى أقل من النصف. الثاني، ستتمكن العمالة الماهرة من رفع الكفاءة الإنتاجية وسيتعلم منهم السعوديون فن وتقنيات العمل. الثالث، سيضطر التاجر إلى البحث عن المواطنين في كل مكان لتدريبهم وتشغيلهم وتطويرهم. نصيحتنا إلى وزارة العمل أن يضعوا تجارنا الأعزاء أمام خيارين: إما القبول بتشغيل واستقطاب المواطنين ورفع الرواتب وتحسين بيئة العمل لتكون بيئة جاذبة وليست طاردة وبحد أدنى للراتب لا يقل عن كلفة العامل الوافد بحسب القرار الوزاري، أو القبول بكلفة بناء وتجهيز أو استئجار مدن عمالية لتنتفع بها العمالة الوافدة وتقديم الطعام لهم بحسب الشروط والمواصفات المبينة في القرار، مع رجائنا الحار لإخواننا التجار ألا ينسوا «البرغل». * باحث سعودي. [email protected]