أوجه حديثي اليوم إلى رئيس مجلس الغرف السعودية ورئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية والصناعية بجدة الأخ الكبير والشيخ القدير صالح بن عبدالله كامل، الذي أود أن أطلق عليه «شاه بندر التجار». توجيهي الحديث إلى الشيخ صالح يأتي من ثلاثة أمور: الأول، أن معرفتي بهذا الشيخ النبيل تمتد إلى أربعة عقود، وعلى مر هذا الزمن كله ورؤيته ثابتة ومبادئه غالية وقيمه عالية، بل إنه يزداد ثباتاً وحكمة وجمالاً، والثاني: أنه يشغل منصباً يحتم عليه المنافحة والمدافعة عن حقوق التجار، كما يتوجب عليه وهذا ما نصبو إليه دفع التجار نحو فهم أعمق حول معنى التجارة الإيجابية التي تخدمهم وتخدم وطنهم والمواطنين بتوازن غير مخلٍ، فكل سلبية من التجار ستنعكس سلباً على قدرته في الدفاع عنهم وتمكينهم، الأمر الثالث: هو أن موضوع «السعودة» أو توطين الوظائف وصل بسبب التجار إلى حد خطر يجب فيه ومعه أن يتدخل «شاه بندر التجار» لكي يأخذ التجار زمام الأمر بيديهم، ويتحولوا عن مماحكاتهم وحيلهم المكشوفة، وأن يتبنوا أبناء وبنات الوطن توظيفاً وتدريباً وتطويراً؛ نقول يأخذون زمام المبادرة قبل أن يستفحل الأمر وتنتقل القضية من مستوى التحدي إلى مستوى الأزمة، وعندها سينتقل الأمر إلى قرار سياسي قوي وملزم لن يأخذ كثيراً من دعاوى التجار في الحسبان، وسيعطي للمواطن حقوقه الكاملة في التوظيف بنسب أعلى، بصرف النظر عن الربح والخسارة لبعض الدخلاء و«الدكاكنجية» على التجارة والاقتصاد وقطاع الأعمال. «السعودة» قدر هذا الوطن ولا يمكن لأحد أن ينسى أو يتناسى أهميتها أو ضرورتها، لأنها تعني ببساطة متناهية إعادة حق لصاحبه متى أراد، وبالتالي فإن المحاولات المستميتة من التجار في التخلص من «السعودة» لن يكتب لها النجاح، طال الزمان أم قصر. أي قارئ للتاريخ المعاصر، وتحديداً تاريخ المستعمرات في شتى بقاع الأرض، سيلحظ من دون أدنى عناء أن القوى الاستعمارية تحاول جاهدة أن تسلب السكان المحليين حقوقهم بشتى الوسائل والحيل بقصد نهب مقدرات البلاد والعباد، وهذا ما يحدث من كثير من تجارنا الأعزاء في تعاملهم مع «السعودة»، لغة مشتركة وخطاب يكاد يتطابق بالحرف والنص. للتدليل على ذلك فلنقرأ ما قيل عن الشعوب العربية المجاورة إبان الاحتلالين البريطاني والفرنسي، ولنقرأ أيضاً ما قيل عن شعب جنوب أفريقيا قبل نيلسون مانديلا، سنجد أن الجدل يدور حول عدم كفاءة السكان المحليين من نواحي الثقافة والتعليم وأخلاقيات وسلوكيات المهنة والانضباط إلى آخر ذلك من حجج وحيل بقصد الاستفراد بالاقتصاد وإقصاء المواطنين بكل أشكال الإقصاء. في المملكة اجتهدت الدولة، ولا تزال تجتهد، في أن تبني قطاعاً اقتصادياً قوياً وقادراً على المنافسة، وأوجدت لهذا القطاع كل التسهيلات، وذللت كل الصعوبات من أجل الوصول إلى التنمية المستدامة، ولذا نشهد أن الحكومة تكاد تكون في ورشة عمل مستمرة من أجل تهيئة المناخ والبيئة لهذا القطاع الاقتصادي لكي يصمد أمام المنافسة وأمام التحولات والتقلبات الاقتصادية الدولية، وألا يتأثر بأبسط هبة ريح من رياح «العولمة». في مجال «السعودة» حاولت وزارة العمل أن تمسك العصا من النصف - كما يقول المثل - للموازنة بين توطين الوظائف ومشاريع التنمية المتسارعة، فقبلت الوزارة بعض الجدل من التجار حول تخفيف وخفض نسب «السعودة» في كثير من القطاعات بحجة أهمية السرعة في تنفيذ المشاريع التنموية، من ناحية ثانية، قبلت وزارة العمل حجة التجار في أن مخرجات التعليم لا تتناسب مع مدخلات سوق العمل. النتيجة، مزيد من تأشيرات العمل، مزيد من التأخير في المشاريع التنموية، مزيد من سوء التنفيذ في المشاريع، تكشفه أول قطرة مطر، وأخيراً، وبأهمية خاصة، مزيد من البطالة والعطالة والإحباط للمواطن. لقد إستأنس كثير من تجارنا الأفاضل الربح السريع بكل أشكاله وألوانه، متجاهلين بأن تجارة الربح السريع لن تدوم وإن إدمان هذا النوع من التجارة سيفضي بهم إلى دمار في الدنيا والدين، استمرأ كثير من تجارنا الأعزاء العمالة الرخيصة فجلبوها من شتى بقاع الأرض واستقدموا عمالة من الأرياف ومن تحت أعشاش الفقر المدقع لكي يتاجروا، على حد ظنهم، ويكسبوا حفنة من المال لبناء كيانات هزيلة وأغرقوا شوارعنا ومدننا بأسوأ أنواع العمالة حتى أصبح مستوى الخدمات متردياً بشكل يدعوا للرثاء، وعلى رغم إصرارنا على «السعودة» وفتح مجالات العمل لكل مواطن ومواطنة، إلا أننا نشدد على أهمية العمالة الوافدة المدربة المتعلمة التي يكون لها قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، وأول تلك القيمة يكمن في تعليم وتدريب العامل السعودي أخلاقيات وتقنيات وفنون العمل. لا يمكن للسعودة أن تقوم أو تستقيم من دون العمالة الوافدة المستنيرة التي تستطيع أن تقدم لنا شيئاً وأن تتقدم بنا بعض الشيء، أما «المتردية والنطيحة وما أكل السبع» من العمالة فبقاؤها في بلدانها الأصلية أفضل لها ولنا، يقول المثل العربي «لو فيها خير ما رامها الطير»، وهذا ينطبق تماماً على نوعية العمالة الوافدة التي يتسابق عليها تجارنا الشطار. العامل الوافد الذي يقبل بأن تهان كرامته، وتسلب حقوقه ويترك أهله وعشيرته لكي يعيش عيشة البؤساء، ويقترض دخله لسنوات يدفعها لمكتب الاستقدام الذي بدوره ينفقها على صاحبنا تاجر الاستقدام، نقول إن ذلك الفرد المستقدم خامل وليس عاملاً. الخطر، أن ذلك الفرد المهاجر سيعمل أي شيء لكي لا يعود إلى الحال المزرية في بلده الأصلي، كما سيعمل أي شيء، نقول أي شيء، ليكسب المال، فالعمالة المدربة والمتمكنة والواثقة من أدائها وإتقانها العمل لن تقبل أن تترك أوطانها وأهلها وناسها وتهاجر من أجل عمل لا ينصفها ويعطيها كامل حقوقها ويتعامل معها بالرفق والإحسان والاحترام. أي مراقب لما يدور في صحافتنا من نقد وملاحظات، حتى لو كانت موجهة ضد وزارة أو جهة رسمية، هي بسبب كثير من تجارنا الأكارم، الذي يغلب على سلوكيات معظمهم الطبائع البشرية الأربعة: الظلم والجهل والجشع والعجلة، الطبائع أو الغرائز الأربعة كائنة في كل بشر ولا يلجمها أو يكبح جماحها سوى أمرين: الوازع الديني وسلطة القانون. الوازع الديني الذي ينبع منه السلوك الأخلاقي هو الأساس في التجارة ومن دونه ستنحرف التجارة عن هدفها الرئيس وتصبح بحثاً عن السلطة والمال بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة. أما سلطة القانون فهي تطبيق الأنظمة والتعليمات وبالتالي فهي واجبة وحتمية في ظل تضخم المجتمعات وتداخلها مع بعضها البعض وتعقيدات التبادلات التجارية، وكبح جماع الغرائز البشرية. أخيراً، أطلب من الأخ الكبير القدير صالح بن عبدالله كامل أن يبدأ بتثقيف وتعليم تجارنا الأعزاء والتأكيد عليهم في أهمية الوازع الديني عند التعاطي في التجارة، كما أقترح عليه أن يترجم خطة التنمية التاسعة المقبلة قريباً التي أشاد بها وحجم الثقة التي توليها الدولة للقطاع الخاص أن تكون ترجمة حقيقية يلمس آثارها المواطن، ليس على صعيد الاستثمار والأرقام بل على صعيد الاستقرار والتوظيف المستدام للمواطنين وليس للوافدين . وهنا نتساءل مع شيخنا الكبير: ما القوة أو الفائدة أو المفاخرة في اقتصاد لا يخدم مواطنيه؟ ما الإعجاز في تجارة أو اقتصاد يفتقد إلى رأس المال البشري الوطني؟ أليست البطالة «أم التخلف»؛ الفقر، والمخدرات، والإرهاب، وكل ظاهرة سلبية في المجتمع؟ أجزم بأن أخى الكبير صالح سيتمكن من الإجابة عن الأسئلة التي استعصت على تجارنا. ختاماً، حقيقة تستحق الاهتمام، وهي أن لدى التجار بيتاً يطلق على غرفة جدة «بيت التجارة» ولديهم مجلس كما أن لديهم غرفاً، أما العمال الطرف الثاني في المعادلة ماذا لديهم؟ ليس لديهم حتى خيمة تحميهم من ظلم وجشع كثير من التجار... همسة أخيرة في أذن «شاه بندر التجار»: استمع إلى التجار واصغِ لكل ما يقولون، لكن خذ ما يقولونه «بشيء قليل من الملح»، كما يقول المثل الغربي، واحذر، وفقك الله وأعانك، من كلمات الحق التي يراد بها بطالة. * باحث سعودي. [email protected]