«أهم مكسب حققناه من الثورة هو حرية الإعلام». بهذه العبارة يلخص كثيرون من التونسيين حصاد تجربة التخلص من الرئيس السابق زين العابدين بن علي وبناء المسار الانتقالي، الذي ما زال مثار جدل بين الفرقاء السياسيين. من هنا، بات الاقتراب من حرية الإعلام محاولة لاجتياز «خط أحمر» ردت عليها بقوة قوى المجتمع المدني، وخصوصاً «نقابة الصحافيين» من خلال حمل شارات حمر وتنظيم وقفات احتجاجية قد تُتوج بإضراب عام في القطاع قريباً. انطلق الخلاف من اعتبار الحكومة الائتلافية (التي تضم «حركة النهضة الإسلامية» وحزبي «التكتل» و»المؤتمر») أن من حقها التحكم بوسائل الإعلام العمومية (الحكومية)، فعزلت مسؤولين سابقين وعيّنت قياديين على رأس القناتين التلفزيونيتين والمحطات الإذاعية العمومية. لكن أكثرية العاملين في القطاع اعتبرت تلك التعيينات رد اعتبار لوجوه إعلامية خدمت النظام السابق. وجاء الخلاف عقب محاصرة جماعات سلفية مبنى التلفزيون الحكومي نحو شهرين من أجل فرض تغيير خطه. وكان التلفزيون، بقناتيه، استقطب الجمهور للمرة الأولى في تاريخ البلد بنوعية النشرات الإخبارية المنوعة التي كان يبثها، وخصوصاً بالحوارات السياسية التعددية التي شدت الجمهور إلى شاشتها، متخلياً عن القنوات العربية والأجنبية التي كان يُتابع أخبار بلده من خلالها. ولم يُنه السلفيون اعتصامهم أمام التلفزيون إلا بعد تدخل شخصي من مستشار رئيس الوزراء، المسؤول عن قطاع الإعلام، ما أكد الشكوك بأن أطرافاً في الحكم كانت وراء الإعتصام «لإدخال الإعلام العمومي إلى بيت الطاعة»، على ما قال محللون. وسرعان ما تغير الخط التحريري للقناتين العموميتين لتختفي منهما أخبار أحزاب المعارضة تقريباً وتتراجع الحوارات التعددية وتطغى عليهما، في المقابل، نشاطات الوزراء على نحو أعاد إلى الذاكرة نشرات الأخبار الخشبية أيام بن علي. قنوات خاصة تزامنت التغييرات في القناتين الحكوميتين مع اندلاع صراع بين الحكم والقنوات الخاصة من أجل ضبط إيقاعها. وركزت الحكومة على قناة «التونسية» التي كانت الأكثر انتقاداً لحركة «النهضة» و»الترويكا» الحاكمة عموماً، وبخاصة في برنامج «اللوجيك السياسي» الذي حقق إقبالاً غير مسبوق في شهر رمضان الماضي، بفضل تصويره الساخر للشخصيات السياسية في الحكم والمعارضة على السواء. غير أن السلطات نقلت المعركة إلى القضاء بحجة أن مدير القناة سامي الفهري هو في الوقت نفسه صاحب شركة «كاكتوس» للإنتاج التلفزيوني، التي كان بلحسن الطرابلسي، صهر بن علي، يملك 51 في المئة من أسهمها قبل الثورة. واتهمت نقابة الصحافيين الحكومة بتحريك ملاحقة قضائية أخرجتها من الأرشيف القضائي بحق «كاكتوس» بعدما «نام» الملف في الأدراج سنة ونصف السنة، من أجل التخلص من صوت نقدي بحسب قيادة النقابة. وفعلاً اعتقل الفهري وأدخل السجن. وبعدما هاجم المستشار السياسي لرئيس الوزراء لطفي زيتون النقابة متهماً إياها بكونها باتت تدافع عن الفاسدين، تحدته النقيبة نجيبة الحمروني في مؤتمر صحافي أن يُثبت أن النقابة حمت رموز العهد السابق، معتبرة أن الفهري اعتُقل بعد رفضه وقف بث برنامج «اللوجيك السياسي» الذي أزعج الحكومة. وفي خط موازٍ، غيّرت الحكومة الطاقم الذي يدير مؤسسة «دار الصباح»، ناشرة أعرق صحيفة في تونس (تأسست سنة 1951)، بتسمية لطفي التواتي الذي قال زملاؤه إنه كان يعمل في سلك الشرطة، مديراً عاماً للدار، إضافة إلى عزل ثلاثة رؤساء تحرير. وكان صخر الماطري، صهر بن علي، اشترى غالبية أسهم الدار في أواخر العهد السابق، ما أجاز للدولة وضع يدها عليها بعد الثورة. وصبّت التعيينات الجديدة الزيت على نار الاحتجاجات لدى الصحافيين والعمال الذين أصدروا العدد التالي من جريدتي «الصباح» و «لوتون» Le Temps الناطقة بالفرنسية من دون افتتاحية، مع ترك مساحة بيضاء في المكان المخصص لها احتجاجاً على التعيينات ولتأكيد تشبثهم باستقلالية الخط التحريري للمؤسسة. هيئة تعديلية أما نقابة الصحافيين فرفضت التعيينات في التلفزيون و «دار الصباح» ورأت أن الحل يتمثل في تشكيل «الهيئة التعديلية للإعلام السمعي والمرئي» التي توكل إليها التعيينات في المؤسسات الإعلامية العمومية «اعتماداً على مقاييس موضوعية وشفافة». وكانت هيئة رسمية تشكلت بعد الثورة من مهنيين وأطلق عليها اسم «الهيئة العليا لإصلاح الإعلام» قدمت تقريراً شاملاً رصد العلل التي تعيق تحرير القطاع وتطوير أدائه، واقترحت حلولاً عملية من ضمنها تشكيل هيئة تحكيم من خبراء ومهنيين مستقلين، أسوة بالوضع في بريطانيا وفرنسا، تتولى الإشراف على ضبط المحطات الإذاعية والتلفزيونية طبقاً لمعايير مهنية. إلا أن الحكومة الحالية رفضت التجاوب مع اقتراحات اللجنة، ما حمل أعضاءها على الاستقالة الجماعية. وفي غياب أي هيئة تعديلية، بات تسيير المشهد الإعلامي من مشمولات المستشار السياسي لرئيس الوزراء. لكن ضغوط الإعلاميين حملت السلطات على التقدم باقتراح يقضي بإناطة تكوين الهيئة التعديلية إلى «المجلس التأسيسي» الذي تسيطر عليه «النهضة» وحليفيها في «الترويكا». غير أن نقابة الصحافيين قالت إنها ترفض أن يتولى المجلس انتخاب أعضاء الهيئة من دون إشراك أهل القطاع عبر الهياكل المهنية التي تمثلهم. ووصفت الحمروني (النقيبة) تلك الخطوة ب «السابقة الخطرة»، وحضت الحكومة في تصريح ل «الحياة» على الإسراع في إصدار القوانين الترتيبية وإرساء الهيئة التعديلية للإعلام المرئي والمسموع. لقاء... فتنسيق؟ يبدو أن حدّة الصراع تراجعت في الأيام الأخيرة بعد لقاء جمع نقابة الصحافيين مع رئيس الحكومة حمادي الجبالي، وتردد أنه أسفر عن اتفاق على تكوين هيئة تنسيق دائمة بين الجانبين لتفادي التجاذبات، فيما أكدت نقيبة الصحافيين أن الحكومة تعهدت التعاون مع النقابة في إصدار اللائحة السوداء للإعلاميين المتورّطين مع نظام بن علي والضالعين في الفساد. وفيما أكد مستشار رئيس الوزراء أن نشر اللائحة «هو مطلب مشترك بين الإعلاميين والحكومة وأن إصدارها مسألة وقت»، اعتبر وزير حقوق الإنسان الناطق الرسمي باسم الحكومة سمير ديلو أخيراً أن نشرها وفتح أرشيف الأمن السياسي ينبغي أن يتمّا «في إطار قانوني واضح منعاً لأية فوضى»، ما اعتُبر إرجاء للنشر إلى تاريخ غير معلوم. والأرجح أن التجاذب مرشّح للتصاعد بين الحكومة والإعلاميين عقب تعيينات جديدة أعلنت أخيراً وسط استمرار الاحتقان في «دار الصباح» واستمرار التكتم على لائحة الصحافيين المتعاونين مع الأجهزة الأمنية في العهد السابق.