مثّل التلفزيون التونسي الرسمي بقناتيه «الوطنية 1» و»الوطنية 2» على مدى أكثر من عقدين من الزمن بوق الدعاية لنظام الرئيس المخلوع. ووصلت علاقة التونسي بالقناتين إلى حد مقاطعة شبه كاملة، ولا يتغيّر الأمر إلاّ خلال شهر رمضان نظراً لتلهّف التونسيين لمشاهدة أعمال درامية أو برامج من إنتاجات تونسية، لتعود المقاطعة كما كانت بمجرد ظهور هلال العيد. ولطالما تندّر التونسيون ب «تونس 7» و»تونس 21»، وأطلقوا عليها نعوتاً وأوصافاً مضحكة فيها كثير من التهكّم. وشهدت الوطنية الأولى في السنوات العشر الأخيرة غزواً من شركة «كاكتوس» التي يمتلك بلحسن الطرابلسي صهر الرئيس المخلوع والمقيم حالياً في كندا، نسبة مهمة فيها. «كاكتوس» ظفرت بأهمّ مواعيد البثّ لبرامجها ومنوعاتها وأعمالها الدرامية مقابل نسبة مهمة من عائدات الإعلانات والتي تقدر بالبلايين، كما أكد مهاجموها، وتحديداً النقابة الأساسية للتلفزة التونسية من خلال وثائق كشف عنها في ندوة صحافية وفي برنامج «سقوط دولة الفساد» الذي بثّت «الوطنية الأولى» قسمين منه إلى حد الآن. وبحسب المصدر ذاته ظلت الشركة تستغل أجهزة التلفزيون الرسمي من دون وجه حق، كما تؤكد ذلك نقابة التلفزيون في تقاريرها عن الفساد الذي انتشر في شكل مخيف في المؤسسة التلفزيونية التونسية الحكومية. وتذكر تقارير النقابة وتقارير أخرى سُربت في مواقع إلكترونية أنّ الفساد المالي والإداري تفشّى في شكل جعل المؤسسة اليوم تعيش مشاكل مادية خطيرة، بل تكاد تعيش عجزاً مالياً خانقاً خلال الأيام القليلة المقبلة، وهو ما يؤكده عدم إنجاز أعمال درامية لهذا الموسم ولو أن ثمة بعض الحديث عن إمكان إنتاج «سيتكوم» أو أكثر. مشاكل الفساد في مؤسسة التلفزيون التونسي لم تكن «كاكتوس» المتسبب الوحيد فيها، بل تشير التقارير والأخبار أنّ بعض أبناء الدار الذين كانوا متنفّذين من خلال علاقاتهم سواء بعائلة ليلى الطرابلسي أو بدعم مباشر من عبد الوهاب عبد الله مستشار الرئيس المخلوع ومهندس الإعلام التونسي قبل الثورة قد عاثوا فيها فساداً مالياً وإدارياً. كما أشارت تقارير النقابة أنه وبموجب عقد سري تبين أن التلفزيون التونسي يَهَبُ وكالة الاتصال الخارجي كل سنة ما قيمته بليونان و250 مليون دينار (مليار و600 مليون دولار) بعنوان خدمة النظام وتمويل الحملات الانتخابية. وجاء في تقارير النقابة أنه رصد 744 ألف يورو لشراء جهاز بث، تكاليف إصلاحه عادلت ثمن اقتنائه وتبين في ما بعد أنه لا يستجيب حاجات المؤسسة. وضبطت النقابة الأساسية للتلفزيون التونسي قائمة في أسماء المتهمين، وغالبيتهم مدراء عامون ومشرفون على القطاع من داخل التلفزيون وأطراف لها علاقة بمواضيع فساد. وأشارت تقارير النقابة إلى أنّ 20 في المئة من الأرشيف السمعي البصري أتلف بسبب الإهمال الذي حصل إبّان انتقال التلفزيون إلى المقر الجديد. كما اتهمت النقابة شركة «كاكتوس» بتزوير الوثائق المتعلقة بعقود بينها وبين التلفزيون فضلاً عن تقديم برامج وأعمال من دون عقود رسمية. هذه التهم وغيرها رفضها سامي الفهري المسؤول عن «كاكتوس»، ومن خلال فقرة خاصة على قناة «التونسية» عاب الفهري في رده على اتهامات النقابة عدم تطرقها لفترة إدارة المدير الحالي للقناة في الملفات التي تعهدت النقابة بكشفها، حيث أن المدير الحالي مختار الرصاع باشر مهمته هذه في فترة سابقة. وتساءلت جماعة «كاكتوس» حول عدم مطالبة النقابة بمحاسبة الرصاع كما هي الحال مع بقية المسؤولين الذين تداولوا على الوطنية الأولى والثانية، وفتح هذا التساؤل باب التأويلات على مصراعيه. وفي ما يتعلّق بأداء التلفزيون التونسي الرسمي بقناتيه، مازالت الآراء متباينة نظراً لمستوى الخطاب الذي يرى فيه كثر من التونسيين انسجاماً كاملاً مع أداء الحكومة الموقتة والذي يتّسم بحسب كثر من المتابعين بالضبابيّة وعدم الشفافيّة، بخاصة مع الحديث عن وجود حكومة ظل أو ما سمّاه بعض المستقلين من حكومة تصريف الأعمال ب «أطراف أخرى» تسيّر الحكم في البلاد، وهو ما لم يؤكده أيّ من المسؤولين الذي استقالوا من مناصبهم بأدلة ملموسة. ويرى كثر من التونسيين أن أمام التلفزيون التونسي سنوات طويلة حتى يستجيب طموحات المشاهد وتطلعاته، وأمام هذه النظرة اليائسة يرى آخرون أن نوعاً من التطور شهدته الوطنيتان الأولى والثانية مع المطالبة بمزيد من التطوير على مستوى الخطاب والتصور والبرمجة. وتقول الصحافية التونسية جميلة القصوري «القناة الوطنية شهدت انزلاقات خطيرة اثر موعد «12 يناير» المفصلي في تاريخ تونس فبعدما كانت قناة أحادية التوجه ومثلت بوق السلطة لمدة عهود فإنها حافظت على توجهها ولكن في الاتجاه المعاكس حيث إنها لم تتوان في دخول سباق الإثارة من خلال حملات التشويه والتحريض على العنف والإقصاء». وتضيف: «الانزلاقات استمرت فترة مطولة نسبياً إلا أن القناة الوطنية بدأت تعود إلى رشدها وتستعيد صوابها شيئاً فشيئاً لتستعيد نسبياً حياديتها، إلى أن اصطدمت بجدران صلبة وأصبحت قناة معارضة للسلطة وبشكل متشنج، وربما جسمت من خلال توجهها الأوليّ خلال الفترة التي تلت الثورة رد فعل مفهوم لكل من عانى من القمع وخنق حرية التعبير. عموماً القناة الوطنية عادت إلى اعتدالها وحياديتها نسبياً لكنها لا زالت تفتقر إلى الحرفية وعمق التصور وجمالية الصورة». وتشير القصوري إلى أن القناة الوطنية تفتقر أيضاً إلى مشروع شامل للنهوض بأدائها وتطويرها، و»لعل تعيين مسؤولين غير مختصين ولا علاقة لهم بالميدان قد عمق فجوات تقهقرها وتواضع أدائها، والأمر لا يتعلق فقط بما قبل الثورة وإنما بالفترة الحالية طبعاً».