الهدوء الهادر تناقض لا يتبدى على حقيقته إلّا في ظواهر نادرة منها السيطرة على لعبة صعبة أو موهبة فذّة. وليس مفاجئاً ان يصعد خماسيّ الجاز التابع للعازف رون كارتر الى مسرح مهرجانات بعلبك وكأنه يخرج من غرفة في منزله الى أخرى بينما الجمهور في الجهة المقابلة يضج تصفيقاً وتوقعات.عملياً، هناك نوع من التحدي ينتظر الخماسي الواثق من نفسه: فالجاز عموماً ربيب الأمكنة المغلقة مثل مقاصف نيو أورلينز وعلب ليل نيويورك. جوّه حميم، مؤطّر، يسهّل التواصل بين العازفين والحضور، بل يجعله موجة متواترة من دونها لا تقوم الحال الوجدانية التي تفسح المجال لارتجالات وتجاوزات وابتكارات وغزوات لحنية طالما أصبحت جزءاً من عالم الجاز. إلا ان رهبة بعلبك بأعمدتها الساطية وليلها المقمر أضفت طقساً جديداً على أداء الخماسي، فالتهب الجمهور حماسة وأعطى الموسيقيون أفضل ما لديهم من عزف. مأثرة رون كارتر انه نقل آلة التشيلو من الظل الإيقاعي الى ضوء الأداء الفردي والابتكار في سياق الجاز الكلاسيكي، فبعد سنوات طويلة الى جانب الأسطورة مايلز دينيز كان خلالها كارتر ضابط إيقاع يصعب إخفاء دوره، انتقل الى تكوين محاور موسيقية تضع آلته الضخمة بأوتارها الثقيلة في مقدمة التأليف والتوزيع على السواء. انطلقت الفرقة على مهل تتحسس أنغامها ضمن فسحة الإصغاء والتوطيد للتواصل مع جمهور مختلط: مهاجرون عائدون مع أولادهم الى عطلة صيف اختاروا جزافاً حضور الأمسية، عشاق موسيقى متنوّعو الأذواق بينهم من لم يحضر أمسية جاز في حياته، وبينهم متحمسون للجاز متمرسمون في سماعه، عارفون بتقاليده. لذا كان على الفرقة ان «تصهر» الجميع في باقة سماع واحدة قبل الانطلاق الجدي في أداء برنامجها. وذلك ما حصل في عملية تنصت وجس نبض وئيدة سبقت توليد إيقاع نهايته، أو قفلته، بداية جملة موسيقية جديدة، هي أيضاً توطئة لاستطراد لحني آخر. وهكذا دواليك... صحيح ان الخماسي المؤلف من محترفين قدامى هم ستيفن سكوت على البيانو، وغيلرمو مونتيريو على الغيتار، وبايتون كروسلي على الطبول ورولاندو موراليس – ماتوس على آلات الإيقاع، تمكن من مغنطة حواس الجمهور في نسبة كبيرة، إلا ان ذلك لم يمنع الجمهور من الركون الى عاداته الطربية الرائجة، فكلما دخل الإيقاع منطقة شبه أليفة استطاب الفريق المشاركة تصفيقاً، مثلما هي الحال في حفلات الطرب الشرقي، علماً ان الجاز سماع يشبه مخابرة هاتفية من طرف واحد! مع ذلك، سرعان ما التقط معظم الحاضرين مدارات التسلّم والتسليم بين العازفين الخمسة وبدأوا يتمتعون بلعبة الانتقال من الجماعي الى الفردي طرداً وعكساً الى ان دخلوا بكامل حواسهم في النسيج الفطري لموسيقى الجاز. في الجزء الثاني للأمسية خرج الجمهور من جو السماع الى مناخ المشاركة. وتلك أقصى أمنيات اليافعين، خصوصاً الصغار الصغار الذين كانوا حتئذ يشعرون بالظلم والأسر في وسط «هشهشة» ذويهم. إدي بالمبيري، شيخ موسيقى «السالسا» اللاتينو – أميركية جاء ينقذهم، مثل دب صغير ضاحك. صعد بالمبيري الى المسرح وحده من دون مقدمات فيما كان الجمهور لا يزال يتسكع في فترة الاستراحة متجاهلاً مدة الدقائق العشرين المخصصة لها، وبدأ يعزف على البيانو شذرات من القطع المعدة للأداء في الأمسية الى ان تكاملت جاهزية الجمهور، فأشار الى أعضاء فرقته بالانضمام إليه: برايان لينش على البوق، يوسفاني تيري على السكسوفون، خوسيه كلوسيل على الصنوج، فيسينتي ريفيرو على الكونفاس، ولوكس كورتيس على الباص. وفي لحظات خاطفة تولدت طبيعة جديدة على الجو هي طبيعة المرح الرفاقي المنوطة بموسيقى موقعة، سريعة، حسية. بالمبيري طلب من الجالسين المشاركة بالتصفيق ومن الراغبين في الرقص ألا يترددوا... ولم يترددوا ولا ارتدّوا حتى النوطة الأخيرة، بل ان بعضهم خرج من القلعة راقص الأطراف!