ماذا لو استقال رئيس الحكومة المغربية؟ ما من شك في أنه سيحرر نفسه وحزبه من ضغوط وإكراهات، لم يكن يتصورها بهذا الحجم. غير أنه سيضيف أعباء متزايدة إلى ثقل تجربة سياسية ما زالت في المهد. وكما أن اعتزال الزعيم الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي الذي سبق عبد الإله بن كيران في رئاسة الوزراء العمل السياسي انسحب سلباً على أوضاع الحزب والبلاد، فإن الراجح أن استقالة الأمين العام ل «العدالة والتنمية» ستكون أكثر أثراً. هذه مجرد فرضية تمليها المواقف الصعبة. لكن الذين يعرفون رئيس الحكومة المغربية أمعنوا التأمل في كلامه، إذ قال إن الحكومات تستقيل لأسباب أقل مأساة، في اشارة إلى مقتل أكثر من 40 شخصاً في حادث سير مؤلم. ولم يغب عن الأذهان أن الإحالة في المرجعية السياسية تفيد أنه قد يكون فكر في الأمر. ولا يهم إن كان الاحتمال ضعيف السند أو تعززه وقائع الصراع الذي لم يهدأ على مشارف الحكومة وداخل مكوناتها. لم يجرب المغرب استقالات الزعامات السياسية والوزراء، إلا في حالات نادرة. فقد فطن الفقهاء الدستوريون إلى أن فكرة استقالة رؤساء الحكومات والوزراء تصبح أجدى عبر استخدام مصطلح الإقالة أو الإعفاء، كونه يترك للمراجع العليا هامشاً أكبر في احتواء الازمات. الأمر الآن يبدو مختلفاً في ظل توصيفات الدستور الجديد، ليس لأن استقالة رئيس الحكومة تطيح بكل مكوناتها دفعة واحدة فقط. ولكن لأن انبثاق الجهاز التنفيذي من صناديق الاقتراع وضرورة استناده إلى غالبية نيابية داعمة بات يحتم التعاطي وأي أزمة حكومية، بنيوية أو عارضة، بمرجعية سياسية تضع في الاعتبار صون المسار الديموقراطي والمضي قدماً على طريق التحولات الجذرية. والأكيد أن العمل السياسي إذ يتحول إلى مضخات صنع الأزمات أو افتعالها يصبح بمثابة عذاب نفسي وتمارين موجعة. بفطرته التي توازي الحذر الدائم حيال تقلبات الطقس، استبق رئيس الحكومة المغربية إنذار الطبيعة، إذ تتلبد الأجواء وتعصف الرياح. وقدم اعتذاراً إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس ومستشاريه في البلاط، في سابقة غير معهودة. كان المبرر تحريف تصريحات نقلت عنه تشي بانقطاع التيار بين رئاسة الحكومة ومستشاري القصر. غير أن العارفين ببواطن الأمور يستبعدون أن يكون لأي تصريح مهما كانت حدته ذلك المفعول الذي يعكر الأجواء ويحتم الاعتذار. فالكلام يمكن استنساخه بكلام آخر. فيما الأفعال وحدها تبعد المسافة أكثر بين حسن النية أو سوئها. من السابق لأوانه الإقرار بأن المغرب يجتاز أزمة سياسية أو حكومية. وفي السياسة كما الطب لا يحتاج المريض إلى عملية جراحية حين يعاني من نزلة برد. ولا شيء أكثر وقعاً من دفع الخصم إلى فعل شيء غير متوقع. ثمة رابط دقيق بين اعتذار رئيس الحكومة وحديثه عن استقالات الحكومات لأسباب أقل خطورة. ما لا يقوله بن كيران صراحة عبر استعارة التلميحات يمكن أن يتحول إلى واقع أقربه نفض اليد من أي مسؤولية إزاء تدبير المرحلة. فالمسافة بين»العدالة والتنمية» وضفاف المعارضة ليست بعيدة أو مستبعدة. فمن تكون له المصلحة في إفشال مسار انفتاح في طريقه لأن يجذب الجميع إلى مربع تحمل المسؤولية من دون تمييز أو إقصاء أو تهميش. لو لم تكن القضية بدرجة الإلحاح لما كلف السفير الأميركي في الرباط صمويل كابلان نفسه عناء الدفاع عن التجربة الحكومية الراهنة. ورسالة السفير لم تنطلق من فراغ، ولا يمكن إدراجها في سياق أي نوع من «الوصاية» طالما أن إرادة صناديق الاقتراع هي ما حمل إسلاميي المغرب المعتدلين إلى الواجهة الحكومية. ولا يمكن للأميركيين أو الشركاء الأوروبيين سوى أن يذعنوا لهذه الإرادة. فقط يبقى الأهم أن ما لم يقله رئيس الحكومة المغربية وما لم يفعله إلى الآن هو الأهم. وليس أبلغ من لغة الإشارات عند أهل الصوفية المتعبدين. والمغرب لم يخلع عباءة الزوايا السابقة لتشكيل الأحزاب السياسية.